بلقيس شرارة
منذ خمسة اعوام فارق رفعة الحياة، وترك فراغاً كبيراً في حياتي. فقد كان رفيق فكر منذ ان تعّرفتُ عليه، وارتبطت حياتنا بذلك التقارب الفكري الذي ثبّت الأسس التي بنيت عليها تلك الرفقة التي دامت ستة عقود ونصف.
كنت احب الأدب وكنت نهمة بالمطالعة وقراءة الكتب، فقد نشأتُ في دار كان عدد من افرادها ادباء أو شعراء، وعندما التقيت برفعة وجدت رفيقاً أكثر نهماً مني في القراءة وتتبع ما يحدث في عالم الثقافة.
كما كان كلانا يحب الإطلاع على ثقافة الشعوب في الأقطار المختلفة من العالم، فبدأنا أول سفرة لنا عام 1956، برفقة الرسام محمود صبري وزوجته، وزرنا بعض الأقطار الأوربية، ومنها النمسا. ولأول مرة أطلع على رقي تلك الشعوب وحضارتها، وما قدمته للإنسانية، وارى اعمال فنانين قرأت عنهم في الكتب فقط.
فمنذ طفولتي كنت ازور لبنان وسورية، للقاء عائلتّي والدي ووالدتي في لبنان، لكني لم اتعّرض قبل هذه الرحلة إلى زيارة بلدان أوروبية. كانت تلك الزيارة هي البداية والمفتاح إلى رحلات أخرى في العالم.
ما زلت أحس بالفراغ الذي تركه رفعة برحيله عن هذه الدنيا وهذا العالم، افتقد الأحاديث المُنّوعة العميقة، إن كانت عن الفن والعمارة أو الأدب. لم يكن رفعة يتحدث بالمواضيع التي يتحدث بها عامة الناس، كان يصمت عندما تتجه الأحاديث إلى ما يسمى باللغة الإنكليزية small talk، اي احاديث عامة غير مهمة. لكن عندما يتجه الحديث نحو مواضع تهمه مثل العمارة والفن، أو التحدث عن الأديان واصلها ومن اين اتت هذه الأفكار، وكيف تطورت خلال العصور، فعنده رأي قاطع لا يتنازل عنه، بل يتمسك بما يؤمن به في هذا الموضوع.
كان لرفعة قدرة هائلة على التركيز ودقة التعبير وحرية البحث والتقصي، مما ساعده على تنظيم حياته، ومساره الفكري، وسيبقى الإرث الذي تركه إن كان في تصماميمه المعمارية أو الكتب التي انتجها، ملكاً للتاريخ.
لكني مازلت احس بنوع من الفراغ الذي احدثه موته، واشعر بالوحدة، لا اسمع إلا خطواتي في الدار، تحيطيني جدران صامتة، رغم مرور خمسة أعوام.
أجل ما زلت افتقد إلى الجدل والنقاش الذي كان يدور بيننا. كانت نظرته نظرة فلسفية للحياة، بعيدة عن الأوهام التي يؤمن بها عامة الناس، ويعود هذا الموقف من الحياة وتلك النظرة الفلسفية، إلى تأثير والده الذي كان الأساس في نشاته وتربيته على هذا النحو.
فقد قرأ والد رفعة علم الأنثروبولوجي في عصره، عندما كان هذا العلم ما زال علماً جديداً في بداية العشرينيات من القرن الماضي. واظهر رفعة منذ طفولته شغفه بالمواضيع العلمية والإجتماعية.
كما اثّر عليه والده في تصرفاته وسلوكه، فكان لا يظهر عواطفه، أثناء الألم أو الفرح، فكبتُ العواطف ظاهرة نادرة في بلداننا العربية، التي يتحلى بها الغرب عادة. لكن رفعة استمر على هذه الظاهرة، كان الصمت يحل داخل نفسه إن أحس بألم أو فرح.
لقد عشنا تحت خيمة من الأفكار التي كان لها أثر في تغيير الإتجاه في العمارة والفن في العراق آنذاك. فالاجتماعات واللقاءت كانت لاتنتهي والحديث والجدل يستمر لساعات متأخرة في الليل.
رغم مرور خمسة اعوام على رحيله، لكني ما زلت احس باللوعة العميقة التي خلفها فقدانه، احدث نفسي عندما أزور معرضاً أو مسرحية، واسألها ما سيكون موقف أو رأي رفعة من هذا المعرض أو تلك المسرحية يا ترى، ثم اعود إلى صمت الدار ووقع خطواتي التي اصبحت جزأً لا يتجزأ من حياتي.
وقد كتبت عن الفقدان في المقدمة التي كتبتها في الكتاب الذي كتبته بعنوان "رفعة الجادرجي" : "إن الشعور بالفقدان هو شعور قوي، لا نحس بعمق الأشياء إلا عندما نحس بالموت حولنا. والكتابة عنه هو الطريقة للسيطرة على هذا الشعور ولو انها سيطرة موقته، فهنالك حدود لما تستطيع أن تقدمه اللغة، واللغة ممكن ان تكون بلسماً مضيئاً ولو انها ضعيفة في بعض الأحيان".
والشعور المهين عليّ بعد أن فقدت رفعة، خلال الخمسة أعوام، هو أنه لم يبق هدف في الحياة هو شعور مدمر بحد ذاته، بعد رفقة طويلة سعيدة. فما زالت غيمة الفقدان جاثمة على صدري، واذّكر نفسي دائما أن الحياة قصيرة، وعلينا أن نستغل كل لحظة، واتذكر قول الخطيب الروماني ماركوس شيشرون: " علينا أن نقبل أن الحياة قرض أعطي لنا من قبل الطبيعة، من دون تاريخ محدد، وأن دفع هذا القرض ربما يطلب منا في أي وقت".