طالب عبد العزيز
حزينٌ، لأنني ما زلتُ ألتذُّ بسماع الموسيقى القديمة، وأقرأُ الاجملَ في كتبي القديمة، وأشاهد الأفضل من الأفلام القديمة، وأتذكرُ الاحسنَ المتحضرَ من الأمكنة؛ والمدن القديمة، وحزينٌ جداً لأنَّ النظام السياسي –الديني- ومنذ عقدين ونصف وأكثر لم يستطع إنتاج ظاهرة ثقافية – فنية واحدة ! وأنَّ صورة المجتمع العراقي تزداد بعداً عن الواقع والمتخَيل في آن، إن لم تكن الا قبح منذ نصف قرن ويزيد، وحزين لأنَّ النفق الذي صرنا اليه مازال مظلماً، وبلا شموع.
موجعٌ، تصوّر كلَّ ذلك بوجود الممكنات، في بلاد تعدُّ واحدةً ممن دقّت فيها أسافينُ المعرفة والوعي المتقدم، ولكي ندخل في تفاصيل الخيبات تلك، وبموجب الكلمة التي تنسب الى شكسبير: "احذر هذا الرجل فهو لا يبتسم؛ ولا يسمعُ الموسيقى..".
نجدُ أنَّ أغنيةً جميلةً واحدةً لم تنتجْ في الداخل العراقي، وأنَّ الخُرسَ أسكت الحناجر، في الوقت الذي انتجت فيه آلاف الاناشيد الطائفية، التي تمجّد الموت، وليس بينها واحدة تقدّمت بنا الى ما تنعقد عليه صروف الحياة من الجمال، والألفة، والطمأنينة، أناشيد تعرضُ حياتنا كلَّ ساعةٍ، في سوق الموت، الذي لا يحدّ ببصر، ولا يستغور بصبر.
مؤسفٌ، قولنا إنَّ كلَّ المهرجانات والمؤتمرات الثقافية والفنية،التي قامت وتقوم بهاالاتحادات والجمعيات لم تستطع التغيير،الذي فرضته آلة التشدد والعنف ونبذ الآخر المختلف، وإنَّ العقل العراقي خارج اسوارالبلاد كان افضل،واستطاع أنْيقدّم أكثرمن إنموذج باهر،فهذا كاظم الساهر،وهوالاسم الالمع في الغناءالعربي اليوم يعيش شبه قطيعة مع الداخل، وكذلك كان سعدي يوسف، وفالح عبدالجبار، ورافع الناصري، وضياء العزاوي، وطالب القرهغولي، وفؤاد سالم، ونصير شمّه، وعبدالله إبراهيم، وحاتم الصكر، ورشيد الخيون، ولطفية الدليمي والعشرات من الأسماء التي أضاءت وتضيئ المشهد الإنساني في الخارج، لكنها تنطفئ وتخمد في الداخل.
لاتبدو المعضلة هذه كبيرة في عين العامة،بكل تأكيد،فهي(العامة) في كهف الظلام الذي أنتجته المؤسسة السياسية - الدينية، ماتزال تجدفي الموت مستقبلها، وفي القبور ضالتها، لكننا ننصتُ بأذن ا لشفقة والرعب معاً الى مئات الأصوات التي تتقدم مشهدنا الحياتي، وتأخذ بأبنائنا الى لاجدوى الحياة. في جولتنا اليومية داخل وسائط النقل العام نفاجأ برنات هواتف الشباب، فهي ندبٌ، ورثاء، ولطمٌ في أغلبها، ومن لاينظر بعين الرعب والشفقة معاً الى مشهد رجال العشائر، وهم يدبكون، ويركلون التراب، ثم يسعدون بإثارته، مرددين ألفاظاً، لانكاد نفهمها، فهو مسلوب في بعض عقله، وليكن غيرَ آمنٍ على حياته كلُّ من لاينظر بعين الريبة والرعب الى صورة أحدَ أبنائه، أو أحفاده، مرتدياً اليشماغ والعقال، ومتأبطاً عباءته، فما الأمر أمرُزِيٍّ و تبتخر، أبداً، فالمضمرُ النكوصُ والإرتداد، أرأيتم مجلساً عشائرياً لا يُفاخرُ فيه بالماضي، ولايُنتقصُ من الآخر على أرضه!
أتعلمُ يا أخي في الشقاء؛ في أيّ البلاد نحن؟ أقولها خالصةً لك: نحن في البلاد التي يكون الحبُّ جريمةً فيها، ولاتُشاعُ الطُمأنينة، ولاتُسمعُ الأغنية، ولاتُشاهد وتُقتنى فيها اللوحة ،ولا يُصغى للفكر، ولاتُكبح فيها شهيةُ اللصوص، ولاتُلجمُ أيدي القتلة، ولايؤخذ فيها برأيِّ النبيل،والأمين،والمخلص فيها. أتعلمُ مَنْ؟ نحنُ يا سيدي جماعةٌ من الوافقين على حدود اللامعنى، المتطلعين الى الغد الموهوم، في أعين الطواطم المتخَيلينَ، نبحث في إستدارة خواتم هم عن فرجةٍ، تؤمِّن لنا مستقبل الحجارة، التي ستنقلب عن أفعىً، فتلتهم ما يؤفك من حولنا. أَنِسَ أولادنا وأحفادنا بما بين أيديهم من الترهات، حتى صاروا يحاججوننا بأبيات من الشعر الشعبي، وإطمأنت نساؤنا الى مستقبلهن حتى وجدناهنُّ عند كل جدثٍ وضريح، فلا حاجة لهنَّ في أمنة وحلم، ولا سفر َفي حقائبهن إلّا الى مقبرة، وعندي وعندك مثل هذه وتلك المئات! فعن أيِّ هنأ هيمُ بوجهي؟
كنتُ قد ورثتُ عن أبي - مع ما ورثت من مناجل ومحاريث وحبال- أغنيته التي من مقام المخالف،أغنيته التي تتنزل من الأعالي،أبي الذي طالت الحياة بأغنيته، لأنه ظلَّ صاعداً، نازلاً، بمرقاته الليف، بالِغاً السماء فيها، مفرِّقاً بين السعف وعذوقه. كان صوته المتقطع، الموغل في الشوق يساقطُ عليَّ من هناك، فأحلم أن أكون أغنيته. لم يسافر قط، لكنه كان يغني للحنين، ولا أعرف ما الذي يحنُّ اليه، ومن تشتاقها نفسه، كان تطوال النخل أحبَّ المنازل اليه، وكانت أغنيته تأتيني من هناك، في الفضاء الأزرق، الذي قلما يهبط عنه. اليومَ لا أبكيه، ولا أبكي صوته، فما أنا من البكائين، لكنني حزينٌ الى ماصرّته، وحزيناً دامعاً أيضاً، أبكي الأيام القادمة، التي لم يحفظها الهؤلاء، السفلة، القتلة، الذين جعلوا من الحياة خِرقةً يتوسلونها الموتَ كلَّ ساعة.