زهير الجزائري
(1)
يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥ بدأت الحرب من مجزرةً (عين الرمانة). كنّا في طريقنا إلى الجنوب اللبناني حين انقطع بثّ الراديو بين إعلان عن مسحوق الغسيل المفضل لدى النساء العصريات و سيكارة (مارلبورو) ذات النكهة البرية ليذاع الخبر. غابت السهول الخضراء تحت (الغطيط) والقمم المعممة بالسحاب عن بصيرتنا، وحل ذلك الشيء الفظيع الغامض الذي يترك مرارة في الفم دون أية صورة أو اسم. توقفنا في الطريق عند قاعدة لفتح وخرج لنا رجل أشيب أجعد الشعر عرفت لاحقًا إنه (أبو خالد العملة). تربع على الأرض وقال وهو يزيح نظره عنّا "اليوم بدأت الحرب. سجلوا هذا التاريخ جيدا!"
وأخذ يخط على الأرض مسيرة الحافلة حافراً بالحجر موقع المجزرة. لم يكن الحدث بهذا التجريد، فالنهار الواضح البسيط لا يشكل ديكورا مناسباً لمجزرة، بل إن سوية الأشياء ووضوحها أعطت لسائق البوسطةً وهو يرود الطريق الذي قطعه مرات ومرات غيبوبة العادة. الطريق كما هو، يأخذ الحافلة والأسهم تشير لانعطافاته، الأشجار على جانبيه ساكنة، ولم يرفع السائرون في الطريق رؤوسهم لإلقاء النظرة الأخيرة إلى الشاحنة ليروا السائرين نحو المجزرة. سويّة الأشياء خدّرت القتلى داخل الحافلة فالشيوخ داخوا من دويّ السيارة وذهاب الأمكنة، والأمهات قلقات على مغادرة بيوتهن، يعللن النفس بفرحة رؤية الأقارب، بينما نَفَرَ الأطفال من أذرع أمهاتهم إلى النوافذ التي تريهم واجهات حوانيت فيها لعب بحجم البني آدم، وديكة حقيقية من الحلوى وحدائق فيها مراجيح معلقة في السماء تهزها فراشات تقول لهم: تعال تعال تعال...! ما من أحد تنبه للحاجز القادم. فالسياسة وقراراتها جرت خلسة في غرف السياسيين، وما من أحد من الركاب يدري أنه اختير لتسجيل بداية تاريخ الدم في لبنان: ملثمون بلا ملامح ولا أسماء أوقفوا الحافلة وأطلقوا النار من الرشاشات على الركاب الذين قتلوا جميعا قبل أن يخرجوا من الدهشة إلى السؤال. كأنني رأيت المشهد كاملا في اللازمان و اللامكان كما في لوحة (مجازر في كوريا) التي رسمها بيكاسو من وحي (غويا). المكان غريب، فمن السهل العاري الذي ستحدث فيه المذبحة يصعد طريق ملتو إلى لا مكان، والوقت نهاية النهار أو بدايته. كل شيء سوي وواضح عدا القتلة والمقتولين. لا يمت القتلة لزماننا ولا مكاننا، بل يمتون لأسلحتهم الجاهزة للقتل. أغرب منهم الناس الذين سيقتلون عما قليل: نساء حوامل يتطلعن للقتلة بدهشة ساكنة: ما اللعبة وبماذا يلعبون، ولماذا هم هكذا؟ ثمة طفل عند أقدام أمه يلعب بالتراب غير آبه بالقتلة والقتلى، وطفل آخر خبأ وجهه في ظهر أمه لا يريد أن يرى. لا أحد يريد أن يهرب كأن الموت قدر هين: بضع رصاصات (تـ. تـ. تـ..) وتنتهي اللعبة.
مجزرة عين الرمانة شدتني لتلك الخارطة المشؤومة التي رسمت على الأرض، ولذاك المثلث بالتحديد: النبعة، وجسر الباشا، وتل الزعتر، إنه النتوء المعيق في خارطة التقسم، لأنه يعيق سيطرة الكتائب على المتن الشمالي، ويقطع خط اتصال مواقعهم الحصينة في شرقي بيروت، وبين ساحل البحر شمالها.
أخطو أولى خطواتي نحو مدينة عرفتها زمناً وتتنكر لي الآن. آثار الرصاص والقنابل على حيطانها. حواجز ومسلحون على طول الطريق إلى (شاتيلا)، ليس بينهم وجه أعرفه. كان ممكناً لو بقيت أن أكون واحداً منهم، أن أكون قطعت مثلهم قرون التجربة وعقودها. أتوغّل في قلب هذا المخيم الذي عرفت بيوته وطرقاته الضيقة، بيوت عشوائية تمتد مع خطوات السائر وتنعطف حين يستدير نحو اليسار أو اليمين وتنغلق فجأة حين يقرر أن يبني بيتاً. أمشي في الزقاق وأنا أتفحص الجدران التي تغطت بصور الشهداء، أمشي وأنا أسأل الزقاق الذي يحمل خطواتي: ترى هل يتذكرني كما أتذكره الآن؟ أشعر بالوجل من التوغل في جغرافيته وفي التاريخ الذي أضيف اليه منذ سنوات. لقد كبر الصغار وأصبح طلاب المدارس أشبالاً، والكبار رأوا أو فقدوا من الوجوه مايكفي لأن يجعل وجهي بينهم صورة في كتاب ورّقوه سريعاً. طوال هذه الفترة لم تتغير الأبنية كثيراً... ذات البيوت. وأسأل نفسي: مؤكد أن (أبو أحمد) مازال يسكن هذا البيت لأنه ملكه، ومازال مالك هذه البناية الجشع كما هو، ينبه الطلبة الى موعد الإيجار قبل حلول الموعد. وهذه الأبنية التي كانت تسكنها الطالبات السعوديات المتأنقات. المتاريس والحواجز والمكاتب العسكرية الجديدة غيرّت شيئاً من ملامح هذه الطرق. وهذه الفجوات السود في وآثار الرصاص تنقّط الأبنية بكثافة. أعرف بعض الشهداء من صورهم على الجدران. كما في كوابيسي خيل لي أني لن أعرف أحداً في هذه المدينة. من أحد المكاتب العسكرية أتصل بالتلفون برقم ، في الجانب الآخر شخص أعرفه، ترى هل هو موجود حقاً؟ هل يتذكرني؟ الغريب أن الصوت ذاته يجيبني، و أهرع اليه. إذاً أنا أعرف رفيقاً في هذه المدينة. وأذهب اليهم سريعاً وأجدهم كما هم؛ مؤيد، شريف، أميل... مؤيد كبر قليلاً وازداد وجهه شحوباً واستطالة.
* * *
ونحن عائدان الى البيت عبر شارع المخيم الرئيسي كنت أرى في الظلمة عيون الحرس وراء المتاريس. محال الخضار والفواكه مفتوحة ومضاءة لتعطيني إحساساً بالأمان: الحياة مستمرة! قبل أن نتوقف أنا ومؤيد الراوي كسرت زجاجة الصمت صلية رشاش قريب. خطفني وميض الرصاصات فملت قليلاً الى الجدار لأحتمي به. منذ ست سنوات وأنا منقطع عن أصوات الرصاص فاعتدت الطمأنينة. بقي مؤيد في مكانه يتحدث الى بائع الفواكه، وبقي بائع الفواكه ينتقي بدقة دون أن يلتفت لمصدر الرصاص. قالا لي إنها باتجاه آخر. لكن الرصاصة كانت بالنسبة لأذني، التي فارقت هذه الأصوات منذ زمن، تستهدف جسدي وحده. الجسد لا العقل هو الذي يستجيب أولاً لصوت الرصاصة.
بمجرد أن فتحنا الضوء في غرفة مؤيد حتى بدأت تدوي القذائف؛ هذا صوت الهاون في برج البراجنة، وهذه كاتيوشا، وهذه صليات الدوشكا. اقترب القصف وأصبح في دوار شاتيلا. مؤكد أن قوات الردع السورية شاركت. هذه مدفعيتهم الثقيلة. هذه الرماية من شارعنا ستشمل كل المنطقة... كنا أنا ومؤيد وعناصر من المقاومة على شرفة بيتهم نراقب خطوط الضوء التي تتركها الرصاصات والصواريخ ونحن نخمن تلقائياً:هل هذا تمهيد لدخولهم؟
أطفأت الضوء وحل في جسدي برود غريب.
لا أعرف من بين كل خطوط الضوء من هي القذيفة التي ستأتينا. عسكري متمرس وقف إلى جانبنا في الشرفةً وبدأ يحلل هذه الرماية:
-لن يأتوا الآن. إذا أرادوا سيبدأون في الصباح.
استمرت الرماية طوال الليل. تهدأ فنتذوّق الهدنةً ونتوهم السلام، ثم تشتعل مرة أخرى من رصاصة أو قذيفة جديدة. كدت أسقط من السرير من شدة الهزات.
19/12/1976
عجيب! كأنهم على موعد مع الموت. ما أن فتحنا عيوننا من ليلةً مرعبة حتى بدأت القذائف و الصليات تلعلع وتهزّ البناية التي أحتمي بها. هل هو الخوف أم القرف هذا الذي يعّصر أمعائي؟ مستلق على السرير عاجز عن النهوض. أخمن: ماذا وراء هذا القصف؟ مؤكد أن قصفهم سيستمر أياماً قبل الدخول. ما الذي سأفعله؟ ليس في نيتي البقاء هنا، لكنني لا أنهض مع إني أدرك خطأ اختيار المكان.
خرجت لاستطلاع ما يحدث. خجلت من الحياة لأنها تسير بتلقائية غريبة. المعارك لا تشغل إلا اُناساً محدودين و منذورين لها، أما الباقون، فيمارسون حياتهم بتلقائية. محال البيع مازالت مفتوحة وهناك من يشتري دون أن يلتفت لمصدر النار. أمامي على السطح امرأة تنشر الغسيل. تمد رأسها من الشرفة لتعرف ما يحدث. تحت، مقاتلون يجوبون الشوارع محملين بكل ما يمكن حمله من صواريخ وقنابل. يذهبون أو يدورون في أماكنهم بانتظار ما سيأتي. أسأل أحدهم؛ يقول باستخفاف:
-مين عارف؟ والله ضاعت.
أضحك معه، أتجول داخل المخيم وأنا أقتبس لا أبالية الناس. وكلما أصبحت أقرب الى هذه الحركة اللاهية للناس تلاشت وطأة الخوف. الخوف هو الذاتية، هو أوهام الذات والجسد المعزول الذي يحتج على حصار الموت. أرى مقاتلين يذهبون لموقع الاشتباك يفرّغون ذخيرتهم ثم يرجعون ثم يعودون للقتال. المدفعية الثقيلة للجيش النظامي السوري الذي يحيط المخيم مميزة ومتتالية تشلّ المنطق والتخمينات. والناس في المخيم متلهفون للقتال. يريدون كسر التردد والانتظار الذي لاجدوى منه. يريدون هزّ السياسة التي تخنقهم بالشيء الوحيد الذي تبقى لديهم، رصاصاتهم وقنابلهم اليدوية.
للحظات يتوقف الاشتباك حتى يتلمس الإنسان طعم الحياة والأمان ثم يعود من جديد. الجسد لا يستمر هنا في حالة واحدة، وهنا يكمن الأثر المرير لما يسمى اللاحرب والسلم وحرب الأعصاب.. هذه التعابير التي نسمعها في الحياة والكتب مجرد اصطلاحات.