الرئيسية > أعمدة واراء > (50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

نشر في: 15 إبريل, 2025: 12:02 ص

زهير الجزائري

2

بين القتال والهدنةً القصيرة تغيرت الحياة الاجتماعية. لقد قضى الناس أياماً طوالًا في الملاجئ. نساء ورجال حشروا في مكان ضيق. شبان لم يعرفوا السياسة و ما أرادوا أن يعرفوها انفصلوا عن عوائلهم وراحوا لجبهات القتال. أمامي في نهاية الزقاق وتحت ضوء شاحب شابة بملابس عسكرية وعلى كتفها كلاشنكوف تحرس مدخل الزقاق. تتمشى بين جدارين متقابلين. أسأل المقاتل الكهل أبو أحمد عن الظاهرة فيجيبني من دون تردد:
-ومالوا؟ على الأقل تحمي شرفها؟
تتنحنح ابنته محتجة على الكذبة. لا يريد هذا الخيار لإبنته. لا يستطيع تخيل ابنته تتبادل الحراسة مع شاب. في ليالي الحراسة الطويلة يصبح الخطر والانتظار رديف الشهوات. كنت أكتب في شقة صديقي وباب الشقة مفتوح على مدخل العمارة. وقفت عند باب الشقة فتاة لبنانية تحمل مدفع (آر بي جي). سألتني ماذا أكتب؟ قلت لها تقريراً لجريدتي. رأت النبيذ أمامي، سألتني أن أسمح لها بتناول جرعة. قلت لها : لكنك في واجب! قالت إنها أنهت واجبها وتنتظر أن ينزل رفيق من المكتب ليستلم النوبة. شربت النبيذ بحمية وهي تتحدث بالسياسة، ولكنني رأيت وعيها منفصلاً، لأنها تنظر للسرير النظيف الدافئ في الشقة. الحراسة والقتال أكسباها شجاعةً وفصاحة. على عكسها كنت خائفًا من دعوتها للدخول. كيف يمكن أن أعاشر امرأة تحمل آر بي جي؟!
20/12/1967
أطفال الحرب
في الطريق إلى (الدامور). هناك تعيش معظم العوائل المهجرة من (تل الزعتر). مررنا بحواجز عديدة لقوات الردع. في كل حاجز يحشر الجنود السوريون رؤوسهم يتطلعون في العيون وتسود لحظات من الصمت المشحون بتيار من الشكوك والمخاوف المتلاحقة، ثم تمضي السيارة. ذهبنا الى (مدرسة أشبال تل الزعتر). الاطفال أكثر قدرة على النسيان، إنهم مرحون كعادتهم، شياطين صخابون التفوا حول استاذهم الذي كان يرافقني (عز الدين المناصرة) وأخذوا يصافحونه ويسألونه. لماذا تركهم؟ أردت أن أكتشف عليهم أثراً مما حدث هناك؛ غيمة حزن، خط قسوة، كبر مؤقت... لكن هيهات، فالطفولة غطت كل ذلك ظاهرياً. بدأت استجوبهم و جهاز التسجيل يدور. إجاباتهم مختزلة في البداية. لقد أنهكوا من الاجابات ثم تدريجياً يسردون الحوادث.اسمعهم و انا لا أكف عن البكاء غير متحرج من المدرسات الشابات وهن يراقبنني. لا حدود لقسوة الانسان ولا حدود لتحمله. كل الروايات التي قرأتها والأفلام لا تصل لما سمعته. شيء يكاد يفوق الخيال. أن يمسك انسان ما بطفل رضيع (لم يذق طعم التفاحة – كما يقول ديستوفيسكي) ويخنقه أمام أمه. لقد أجبروا الناس على السير فوق الجثث. فكرت أن الفاجعة تخلق ثأراً بمقدارها. ربما لهذا كان (الأحرار) الذين هجروا من الدامور هم الأشد قسوة وانتقاماً. حاولت أن أستعين بخبرتي ومعرفتي بالمخيم، لكن الخيال يقف عند حافة الصورة مرتعشاً: صورة الناس الذين ماتوا بالأقساط في الملجأ الذي انهار. أعرف أن كثيراً من الكتاب قالوا إن الموت يمكن احتماله، لكن الألم... لا أعتقد أن هناك أحداً في العالم تحمل مثل هذا الألم. بين الناس الذين التقينا بهم أنصاف مجانين وحاقدين. ولن أنسى ما فعله (رفيق عودة) في مكتب إعلام فتح. جاء الى المكتب شيوعيان من المنطقة الغريبة وعندما عرف أنهما مارونيان توترت أعصابه وأخذ يغلي و (يدردم) وحالما خرجا زاغ منا وهو يحمل مسدساً يريد أن يقتلهما. قلنا له لكنهما شيوعيان! قال ومع ذلك، من المؤكد رأونا ونحن نذبح في تل الزعتر... آه لو تعرفون مقدار الحقد الذي في قلبي؟! الحقد مغروس في أعماق الأطفال الذين رأيتهم. واحد منهم حلم بأنه يقتل طفلة كتائبية. كانت متشبثة بحافة بئر. ضرب أصبعها بحجر ثقيل حتى هوت الى قاع البئر.سأعود للكتابة عنهم ، ولا أدري كيف؟ قضيت الليل كله أفكر بهم.
للمدينة قصة تتعلق بالتهجير والتوطين التي تتكرر كثيراً خلال الحروب الأهلية. القادة في الحروب الأهلية يتبعون أساليب الحروب الثورية نفسها في الاستيلاء على الارض. هدفهم كسب السكان المدنيين الذين وصفهم (ماو تسي تونغ) ب( الماء للاسماك). بدونه يموتون. قادة الحرب الأهلية يطرحون انفسهم ممثلين سياسيين وفي الوقت نفسه قوميين ودينيين لإثنياتهم وطوائفهم. لكنهم عاجزون، ويدركون انهم عاجزون عن كسب الجمهور الآخر للفكرة. لذلك يستخدمون التطهير العرقي باستهداف المدنيين بالتحديد وارتكاب المجازر بهدف التهجير و الاستيلاء على الارض. خلال فترة الحرب الأولى ١٩٧٥-١٩٧٦ و بعد اجتياحات متبادلة بقيت جيوب محاصرة داخل الطرفين (تل الزعتر) في المنطقة الكتائبية، و (الدامور) في منطقة سيطرة القوات الوطنية المشتركة. (تل الزعتر) سقط عملياً بعد اجتياح الكتائب (لجسر الباشا) و (الدكوانه). لكن اجتياحه بقي مؤجلاً للحظة المناسبة، وهي اجتياح (الدامور) التي كان يسيطر عليها (نمور) شمعون. لم يكن التقسيم هدفاً للحركة الوطنية، لكن الأمور لا تجري حسب منطقهم الذي يريد لبنان موحداً مع نفسه ومع حركة التحرر العربية. للحرب منطقها الخاص ولها القدرة على تجديد نفسها بديناميكيتها الخاصة، فرغم رفضهم للمساهمة في التقسيم، لكنهم وجدوا انفسهم يساهمون فيه. يعرفون أن التقسيم لم يكن حلاً، بل سبباً للحرب، مع ذلك اجتاحت قوات فلسطينية ولبنانية بلدة الدامور فأجبرت الناجين من أهلها على مغادرة المدينة عن طريق البحر. وعادة، يتبع التطهير توطين لإعادة تشكيل هوية المكان بحيث تصير مناطق كاملة من لون واحد. بعد سقوط (تل الزعتر) سُكّن الناجون في هذه المدينة الساحلية . انتقاماً قام أهل الدامور المسيحيين المهجرين و مقاتليها من (نمور الاحرار) بالتمثيل الوحشي بسكان تل الزعتر. الناجون من تل الزعتر أسكنوا في الدامور. كانت عمليات التهجير و الإسكان جزءاً اساسيا من الحرب اللبنانية.
حين وصلت الى الدامور كنت أسمع صفيراً متواصلاً في أذني يشوش عليّ سماع الآخرين. هناك شيء خفي وحاضر، ربما هو حضور الغائبين. المسيحيون الذين هجّروا من المدينة أنشبوا وجودهم العنيد في بيوت المدينة المهجورة وكنائسها. في هذا الموقع تعرّفت على شاب وشابة فلسطينيين تزوجا في واحد من بيوتها. بيت فاره بست غرف، لكن كل نوافذه وأبوابه اقتلعت من مكانها. في الليل تضاء غرفة العرس بالشموع وتعزل بستارة خفيفة من اكياس المعونة الدولية. من خارجه يبدو البيت كما في أفلام هيتشكوك مهيأ لحدث فضيع سيحدث بعد خطوة. العروس في العشرين من عمرها تكره هذا البيت وتفضل عليه بيتها الفقير الواضح في تل الزعتر. الزوج يرد عليها مازحاً:
-ما تصدقها! هي خيفانة.
ومم تخاف هذه الشابة التي قضت عاماً ونصف بين الجثة والجثة، والرصاصة والرصاصة والصرخة والصرخة؟ أسأل فيردني الزوج:
-إسألها؟
من ترددها ومقاطعات الزوج عرفت أنها تخاف من البيت حمّامه. وهي تستحم على ضوء الشمعة، صرخت لأنها رأت في الزاوية المعتمة شبح العجوز التي كانت تسكن البيت.. ممسكة بالصليب بكلتا يديها، مختبئة في بيتها وخائفة منه. بعد ذلك ما عادت العروس تطيق البقاء في المكان لأن أشباح الراحلين بقيت تطارد المقيمين الجدد.. علاقتهما ستصبح مشروع قصة تبدأ قبل أن يطبق الحصار على المخيم تماماً. هي الممرضة وهو الجريح. أرادت أن تحمل النقالة من عند قدميه، وكان خجلا من جسده الذي يثقل هذه الشابة، متمسكاً بحافة النقالة، كأنه يريد بذلك أن يقلل من ثقل جسده، أو يقول: ليس ذلك ذنبي. الدم يغطي صدريتها البيضاء، وقد رسم الوهن، والحراسات الطويلة، دائرتين عميقتين حول عينيها، وما كان يعرف كيف يقبل الشفتين، فأخذ يقبل جيدها وهي تشهق، وأنفاسها السريعة الحارة تلهب اذنه، ولا يدري لماذا دفعته عنها بفظاظة. تطلع حوله الى الغرفة، ومنظر محتوياتها المثير للسخرية: جرة ماء، و بوتاجاز قديم وبضعة صحون وشموع وحقيبة ملابس، والفراش المغطى بالأغطية العسكرية.. وكان اتساع الغرفة يفضح بساطة تلك الأشياء المبعثرة.
-أنت تجلب الأغطية من المعسكر، وأنا سأستعير من صديقتي فراشاً وبعض الأواني.
-سنأخذ الطابق العلوي اذا أراد أحد أن ينصب كميناً سيستخدم الطابق الأسفل، سنضع في السلالم صفائح فارغة لتنبهنا عن صعود أيّ متسلل.
وضع عند رأسها مجموعة من القنابل اليدوية ورشاشتين وجرة ماء، وناما…
في ليلة ما سمعنا حركة، حمل هو رشاشاته عارياً ، وهبط السلالم منحنياً ويده على الدرابزين، وأمسكت وهي عارية أيضاً الرشاشة الاخرى وأخذت تراقب من النافذة.
الحلم: وهما نائمان دخل من النافذة رجل يريد أن ينتزع من أحشائها الوليد، بيده غدارة تقطر دماً.
المدينة الموحشة المزدحمة بأشباح الغائبين بدت ديكوراً طبيعياً لمدرسة (أبناء شهداء تل الزعتر).
دخلت المدرسة بخطوات وَجلة مفترضاً أني سأتحدث مع أطفال اجتازوا الطفولة و الكهولة معاً. سأستمع إلى صمتهم كما كلماتهم. معلمتهم في تل الزعتر (سنيّة ابراهيم) طمأنتني:
-لا تخف! كلمتا الموت والمجزرة صارتا أليفتين لديهم.
للتخفيف صنعوا للموت لغة خاصة. (راح) بدلاً من (مات) (رشّوه) بدلا من (أطلقوا النارعليه). إلى الدامور حملوا المجزرة التي عاشوها باعتبارها الصورة الوحيدة للعالم. الطفل (حسين محمد فريجي ١٠ أعوام) لا يلمس أية لعبة خوفاً من أن تنفجر بيديه مثل تلك اللعب التي ترمى مع القذائف لأطفال المخيم خلال الحصار.
دخل الأطفال الدامور بفزع. مامن نافذة في مخيلتهم إلا وخلفها قنّاص،ومامن شجرة إلا وورائها كمين. في الليل ينامون وعيونهم نصف مفتوحة باتجاه الباب والشبّاك.
-ما الذي حدث؟

ألتفت للمدير(عزّ الدين المناصرة) طالباً مفتاحًا لهذه الذاكرة العصية.
-قتلوا أباك؟
-آه!
-كيف؟
-رشوه بالكلشن عند الفندقية.
-هل رأيته بعينيك؟
-آه، هو و أخويا.
بالاختزال يبعدون التفاصيل ويبعدونني عنهم أنا القادم لاحقاً لافتح جراحاً يحاولون أن ينسوها. حين يتعبني اختزال الكلمات أدخل درس الرسم وموضوعه (مسيرة الحياة و الموت في تل الزعتر). على ورق الرسم أتابع مسار الرصاصة من (تلّة الراعي) إلى باب ملجأ ( كاليري متي).. كل شيء مرسوم بوضوح المذبحة التي حدثت في عزّ النهار. الرباعية بفوّهاتها الأربع المفتوحة كعيون ميدوزا مسلطة من التلّة على المخيّم المزدحم بالموت. بواحدة من رصاصاتها قتل طفل وأمه الممسكة بيده.
-من هذا؟
-حسّان. خيي الصغير.. هو وأمي راحوا بالقنص عند حنفيّة الميّة.
المكان هو المكان نفسه كما قالت المعلمة، وكذلك الحادث بالتفصيل. لم أجرؤ على تحريك الحزن القاسي في عينيه. كل شيء مرسوم بلا رعشة على الورقة التي سلمها لي كوثيقة صامتة.عندما تسأله المعلمة نيابة عني:
-ما هذا؟
-دم.
-دم؟
-آه. دم أختي الممرضة.
-وهذا؟
-قبر بيي.
(نوخه الدوخي١٢ عاماً):
-هذا خيي اللي استشهد.

-آه على التلّة. وهذا خيي الثاني قوسوه بباب الملجأ. أمي قالت بدنا نستسلم! زعق عليها:الزعتر ما بيستسلم! إجته قذيفة بباب الملجأ فتته.
-هذا الكميون. خمسة وعشرون طفلاً اختنقوا بالكميون. الناس كانت تطلع على بعضها واحنا نصرخ: بدنا أبونا! قاموا يقوسوا علينا. تحت كان القتل شغّال.
-رأيت ذلك؟
-آه..واحد قالوا له:نزّل إبنك! ما قبلش. قوّسوه وجرّوا ابنه من ورا الجيب و كانت أمو شايفه، وما قدرتش تصرخ.
(آمال منصور١٣ عاماً): كانوا بيعذبونا كثير في الحواجز. يقتلوا الناس عند كل حاجز. ويطلبون من الشاحنة اللي فيها أم الشهيد وأختو أن تدعس عليه.يعذبونا مرة بعد مرة في كل حاجز. لما وصلنا حاجز المتحف كمان نزلونا. الناس قالت : عذبونا في الحواجز السابقة؟ قالوا:معليش، كمان مرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نور زهير ياباني !!

العمود الثامن: البابا فرنسيس وعقدة ساكو

العدالة الدولية تحت المطرقة

العمود الثامن: درس بارزاني

22 عاماً بين "جمهورية الخوف" و"دولة المافيا"

العمود الثامن: حقا إنها مؤامرة!!

 علي حسين في بعض الاحيان يرسل لي بعض القراء الأعزاء رسائل يؤنبون فيها "جنابي" لأنني أثير حالة من الكآبة والسواداوية في مقالاتي، وهم يلومونني لأنني أستغل هامش الحرية وأسخر من السياسيين والمسؤولين الذين...
علي حسين

كلاكيت: القاموس.. الرواية والفيلم

 علاء المفرجي في فيلم (الاستاذ والمجنون) 2018 وهو من أفلام السيرة الذاتية، للمخرج الأميركي من أصل إيراني فيرهاد سافينيا والمعد عن كتاب بالنوان نفسه، صدر عام 1999، للبريطاني سيمون وينشستر، نتابع قصة قاموس...
علاء المفرجي

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياة بين قذيفتين

زهير الجزائري (5) نفير عام! لم نسمع الصوت الأجشّ البارد الذي أمر المدافع بأن تدوّي، ولم نرَ الفارس الذي قطع السهوب لينذرنا: نفير عام! النذير استحال إلى رسائل مشفّرة تخرج من أجهزة الإرسال، تمر...
زهير الجزائري

جِماح الطّائفية.. إلى نوويّة شيعيَّة وسُنيَّة!

رشيد الخيون ما كان في الخاطر ظهور مثقفين، تجمَحَ بهم الطّائفيَّة إلى تسمِّية القنابل النَّوويَّة بالأديان والمذاهب، توصلوا إلى هذه الأفكار الجهنميَّة بعد الحديث عن نِفطٍ شِيعيٍّ وماءٍ سُنيٍّ، فعندهم الأوطان مؤامرات على الطَّوائف،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram