د. ليث مزاحم خضير
لحسن حظ الأوكرانييّن أن يتزامن احيائهم لذكرى يومهم الوطني، أو عيد استقلالهم عن الاتحاد السوفيتي -سَلف غريمهم الحالي- وهم في (شبه) أفضليّة نسبيّة على جبهات القتال، ذلك أن احتفال أوكرانيا اليوم بمرور ثمانية وعشرين عاماً على انعتاقها من ربقة المدار الأحمر قد جاء هذه المرّة وهي تُحقق (غارة Incursion) مُظفّرة، أو اختراقاً عسكرياً ثميناً وشديد النُدرة داخل العمق الروسي (في مدينة كورسك الحدودية تحديداً)، تنفّذه وحدات قتاليّة أوكرانيّة نُخبويّة ومستميتة، شديدة العناد والصلابة، بروحيّة الحرب الخاطفة أو الصاعقة (Blitzkrieg)، مُحدثةً نُدبة، أو ورماً مُتعدد الجيوب والرؤوس، سائب الاتجاهات، ما زال يتوسّع على نحو غامض وغير مُنتظم، مُهدداً بابتلاع نقاط ومحاور مهمّة، ومفاصل استراتيجيّة، بعضها ذات طابع نووي، في سابقة لم تعهدها موسكو منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ويكفي لبيان الأثر الكبير لهذه النكسة عودة الخطاب العسكري الروسي للاحتماء مجدداً بنغمة الردع النووي القصير أو التكتيكي، وميل الرأي العام الأمريكي –وللمرّة الأولى منذ نشوب الحرب- للاعتقاد باحتماليّة أن تُحقق أوكرانيا نصراً ما، بطريقة ما، على الفيدراليّة الروسيّة (استطلاع مؤسسة The YouGov Survey Found).
وإنّه لمن المُفارقات المُدهشة، بل من أعجب صور العود التاريخي المعكوس الطافح سخريةً أن تكون أرض (كورسك) وليس غيرها مسرحاً لتأرجح موازين الصراع المُستعر الأن بين روسيا وأوكرانيا، وهي التي كانت في الأشهر نفسها تقريباً-وبفارق أيّام بسيط- من عام 1943 شاهداً على بداية الأفول النهائي وطليعة الانكسار الكبير لجبروت الآلة العسكريّة النازيّة، وآخر سهم ماضٍ في كنانة (هتلر) يُسدّده مُكللاً باليأس إلى عُنق الدُب الروسي الذي انطلق –منذ تلك اللحظة- في زحفٍ وئيد باتجاه الغربنحو قلب ألمانيا على أديمٍ من وحلٍ وفولاذٍ ودم.
ولئن كانت مناخات معركة (كورسك 2024) وسياقاتها لا تمت بصلة لمثيلتها عام 1943، ولا تشي تباعاً بغير الفرادة والتمايز لكلا الواقعتين، فإن ثمّة مشاهداً ورؤى تحفل بهما الحادثتين، يتعسّر فهمها أو إدراك أبعادها الاحتماليّة بغير منظور الصدى والاسترجاع والترديد، وإلى حدٍ تنسلخ فيه تلك العروض واللقطات من أسرالحيثيات، وتتمرّد على قيود القرائن واللزوميات الناظمة لكل واقعة على حدة، مُرتفعة ببلاغة دروسها من خصوصيّة الحالة إلى عموميّة النمذجة والمُعايرة.
لقدكانت معركة (كورسك عام 1943) ومجمل الحرب في الجبهة الشرقيّة يومئذٍ مذبحةً أيديولوجيّة بين فكرتين (الفاشيّة والماركسيّة) لا يمكن لأحداهما النجاة دون استئصال الأخرى،تماماً كما أنَّ معركة (كورسك) اليوم –والحرب الأوكرانيّة برمّتها مع فرق القُدرات المُجرّدة- هي في جوهرها صراعٌ أيديولوجي بين عقيدتين مُتضادتين: (إمبراطوريّة سلافو-أوروبيّة، ديمو-اوتوقراطيّة، نصف شيوعيّة، نصف أرثوذكسيّة)، و(جمهوريّة شعبويّة، شبه ديمقراطيّة، نصف أورو-غربيّة)، تولّد عنها انقسام حاد سرعان ما أخذ يجتذب الأنداد والأضداد كُلٌّ بحسب مُعسّكره، عدا أنَّ روسيا الاتحاديّة هي قُطب بحق، بينما لا تنتسب أوكرانيا الطموحة سوى إلى نادي (أنصار الديمقراطيّة الليبراليّة) شرفيّاً، ولا تمتلك من مؤهلات العضويّة الكاملة إلا بالقدر الذي يُتيحه لها (أو يحجبه عنها)الدعم العسكري الغربي القادم من أقطاب تُضاهي في ضخامتها وقدراتها ما للروس من مكنة ومنعة.
ولطالما عاب الروس على خصمهم ارتمائه في أحضان الغرب، وصرّحوا مراراً أنهم لا يُقاتلون أوكرانيا فحسب؛ بل حلف الناتو طرّاً، وكانت وصفة (موسكو) السحريّة لتقصير أمد الحرب (أو العمليّة العسكريّة المحدودة كما يسمونها) مشروطةً دائماً بوقف الدعم الأورو-أمريكي لكييف، مُتجاهلين ماضٍ قريب كانت فيه الموانئ والمطارات السوفيتيّة بين الأعوام (1941-1945) غاصّة بشتّى أشكال الدعم الأمريكي في إطار برنامج (الإعارة والتأجير Lend-Lease) الذي لم يكن للسوفييت أدنى فُرصة في كسر شوكة العدوان النازي على بلادهم بدونه.
وقد دأب الروس مراراً على انتقاد النزعة القوميّة الأوكرانيّةالمُتصاعدة، وتبنيها لمُنظّمات تُحسب على الأجنحة الفاشيّة العسكريّة، ودمجها ضمن قواتها المُسلّحة (كتيبة آزوف Azov)، وردّ الأوكرانيّون بأنَّ هذا التشكيل هو جزءٌ مُعلن من الجيش، ينتظم بقواعده ويأتمر بأوامره، ولا يشذ عن هرميّته المؤسّسيّة، قياساً بمعادله الموضوعي الذي تُمثّله شركة (Wagner) الروسيّة المُثيرة للجدل،والعرضة دائماً للتبرؤ من المسؤولين في (الكرملين)، والحق أنّ لواء (آزوف) قد أصبح -بفضل إعلام الحرب طبعاً، وصمود اللواء الأسطوري في معركة (ماريوبول)، ولصرامته وتصلّبه العقائدي- مطمحاً ومؤلاً لجيلٍ من الشُبّان الأوكرانيّين الوطنيّين (يُنظر نهج آزوف التعبوي في قنواتهم على مواقع التواصل)، خلافاً لقطعات (فاغنر) التي اشتهرت بالفظاظة والقسوة، وعُرف عنها افتقارها إلى انضباط القيادة، وضعف التنسيق مع المؤسّسة العسكريّة الرسميّة، ومُنذ انتكاساتها في معركة (ميدفيفكا)، ومصرع زعيمها (بريغوجين) في حادث مُريب، وتقليم أظفار خُلفائه وترويضهم من جانب (بوتين)؛ تضاءل حضور (فاغنر) تدريجياً، ولم تعد تلك القوّة التي تُلقي لها (كييف) بالاً، وانتهى الأمر بأذرعها الأفريقيّة إلى ما يُشبه الإبادة على يد منظّمات مُسلّحة مغمورة في (مالي).
وإذ يقلب الأوكرانيّون الطاولة على خصمهم،رامين في أحضانه شيئاً منلظى الحرب وشرورها،ويتّجه رأس رمح مُغامرتهم الأخيرة صوب (كورسك)؛ طاوياً في طريقه مئات الأميال المزروعة بالقُرى والبلدات المأهولة، فإن لهم أن يستعيدوا –بذاكرة المُقارنة- ليالي فبراير من عام 2022، يوم ارتجفت جُغرافيّة استقلالهم الهش مُهتزّة تحت هدير أرتال طويلة من الجنازير الروسيّة الثقيلة وهي تتقاطر من كُل حدب صوب (كييف)، ثم لم يلبث أن مرّ عامٌ ونيّف على ذلك حتى دارت الدائرة، فإذا من كان بالأمس طريداً صار اليوم مُطارِداً، ومن كان فريسةً صار مُفترِساً، وإن كانت الاستطلاعات ثملة بالانتصارات السريعة، والأعناق تشرئب إلى ما بعد (كورسك)؛ فإن الافتتان بحملة سريعة مُظفّرة، وتحميل تبعاتها ما لا يُحتمل لهو طفولة سياسيّة نربأ أن يمر بها أطراف الصراع الذي طال أكثر مما يجب، وأخذ يستفز هواجس أقرب ما تكون للفناء المُتبادل بحجّة صيانة أمن قومي وتُراب وطني ومصالح وأحزمة نفوذ وسيطرة في منطقة مؤبّدة التأزم، وقد آن أوان الثيب إلى الرشد والعودة لمقاليد التعقّل، فمعركة (كروسك) اليوم ينبغي أن تنتهي إلى نتائج تختلف تماماً عن معركة (كورسك) عام 1943، لأن التاريخ –التاريخ الذي نعرفه- إن كرّر نفسه بطريقته الفجّة، فلن يجد –بعد هلاك الجميع- إنساناً يُدوّنه.