د. باقر الكرباسي
صفحات كثر في أعماق الذاكرة طواها النسيان بسبب تزاحم الجديدين الحلو منها والمر، أحيانًا تطوف على سطحها، فتغري بالكتابة عنها، أو تأملها أو الاستمتاع بتذكرها، وأحيانًا تذهب إلى أعماقها، فتمر غائمة لا نستطيع سبر غورها؛ وفي العقود السبعة التي مرت من العمر محطات كثيرة تستدعي الوقوف عندها، ذكرت بعضها للاعتبار أو لطرافتها، أو لشدَّة مرارتها؛ وقد أذكر بعضها في استراحة قادمة إن مدّ بنا العمر لأهميتها وخوفًا من غوصها ثانية، لعل فيها ما ينفع الناس، وقد تفرقت ما بين العراق وسوريا ومصر والمغرب والجزائر والأردن واليمن والسودان، وليبيا والنيجر، وإيران، وتركيا، وفرنسا والبوسنة والهرسك وهولندا؛ وغيرها كثر، من الدول التي مررت على بعضها سائحًا، وأخر دَرَسْتُ فيها، ودرّست في بعضها، وأقمت ردحًا من الزمن في بعضها؛ ثم تركتها إلى غيرها بسبب أحكام المزاج وتقلباته.
وفي إحدى المحطات (القاهرة) كان لقائي الأول بابن مدينة عين التمر الذي عرفه العالم كبير علماء الفلسفة بفرعيها اليوناني والإسلامي. وقلّة عرفت قدره ومكانته من أبناء وطنه، ولاسيما مدينتي (عين التمر وكربلاء)، ولم يحتف به أحد حين عودته للتدريس بجامعة بغداد، ولا شعر به أحد حين غادرها. ولم يزر العراق بعد خروجه منه إلّا مرّة واحدة في سنة 1985م بمناسبة مؤتمر المربد بدعوة من وزارة الثقافة والإعلام؛ ولم يكن من السهل عليه الخروج منها إلّا بتدخل شخصي من وزير الثقافة؛ فقد كادت تمسك بتلابيبه دوائر الأمن والسفر.
وذكريات هذه الصفحة يعود تاريخها إلى سنة 1971م، وقد مرّت بي بعدها أحداث أشد سوادًا من حنك الغراب كفيلة بطمس أكثرها؛ والحديث فيها يدور حول مسيرة شخصية علمية عالمية هو الدكتور محسن مهدي طيب الله ثراه، -الذي سبقت الإشارة إليه- وعلاقتي به على الرغم من تفاوت العمر فيما بيننا، فهو ابن عشرينيات القرن الماضي وأنا ابن أربعينياته، وقد يكون من المناسب أن أعرف أولًا بشخصيته التي قد لا يعرفها كثرٌ من أبناء وطننا؛ فقد ولد في ناحية عين التمر سنة 1924م، وفيها كان والده يزاول مهنة الطبّ التقليدي؛ ويبدو أنه كان شديد الاهتمام بتعليم ولده في تلك البيئة التي يخيم عليها الجهل والفقر والتخلف آنذاك، فانتقل إلى كربلاء بسبب عدم وجود مدرسة في تلك الناحية، ولاسيما أنها بعيدة عن مراكز الحضارة في يوم ولادة صاحبنا؛ وإن كان تاريخها القديم يوحي إلى غير ما هي عليه، فقد دارت فيها معارك في عصر صدر الإسلام؛ وزائرها اليوم لابد أن يمرّ على حصن الأخيضر أو قصره الذي لم يستطع أحد من الآثاريين أن يحدد تاريخ تشييده، أو أمر ببنائه بصورة قاطعة، فبعضهم نسبه إلى العصر العباسي، وآخرون نسبوه إلى العصر الأموي.
وفي كربلاء المقدسة أكمل صاحبي دراسته الابتدائية والمتوسطة، والثانوية؛ ويبدو أنه حقق نتيجة متقدمة في امتحان البكلوريا أهلته لبعثة للدراسة في كلية التجارة بالجامعة الأمريكية ببيروت، ثم حصل على منحة أو بعثة لدراسة الاقتصاد في جامعة شيكاغو؛ وبسبب ميله الشديد إلى علم الفلسفة تحول من دراسة الاقتصاد إلى دراستها.
وفي أثناء دراستي للحصول على شهادة الماجستير في كلية الآداب بجامعة القاهرة قبل نصف قرن ونيّف كنت أغتنم فرصة شهر رمضان المبارك كي أذهب رفقة الراحلين العزيزين الدكتور حسن الشرع، والدكتور عباس الزيدي وغيرهما إلى منطقة رأس الحسين عليه السلام كي نشتري بعض الكتب التي كانت تعرض بأسعار معقولة في سرادقات بيعها التي تنصب في ذلك الشهر المعظم؛ فنشتري منها ما يتناسب مع قدراتنا المادية المتواضعة؛ ومرّة ونحن في داخلها لفتت أسماعنا أصوات عراقية لوجوه لم نعرفها من قبل، وأخذنا الفضول فاقتربنا من أصحابها واقتربوا منَّا حين سمعونا، وبعد السلام سألناهما؛ فقال الأول، وهو أصغر سنًّا من صاحبه: إنه الدكتور محمد باقر علوان أحد أساتذة جامعة أنديانا، وقد جاء متفرغًا بمنحة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقال الثاني: إنه الدكتور محسن مهدي الأستاذ بجامعة هارفرد، وقد جاء متفرغًا أيضًا مدّة عام كصاحبه في الجامعة الأمريكية.
وبعد تعارفنا، وقبل أن نفترق دعوناهم على وجبة طعام في شقتنا الشديدة التواضع، وسألناهما عن الطعام الذي يرغبان بتناوله، فقالا: (باجه).
كان الدكتور عباس الزيدي تغمده الله بواسع رحمته هو المسؤول عن ميزانية طعامنا، فاشترى ثلاثة رؤوس وأشرف على طبخها، واغتنم أخي حسن فرصة فقطع لسانًا من أحد الرؤوس وأكله، وحين سأل عباس عنه أجابه حسن: لو كان عند الخروف لسان لما حلَّ ضيفًا على مائدتك، فكانت طرفة نتندر بها في بعضالمناسبات.
منذ تلك الليلة استمرت زيارتهما لنا مرة أو مرتين في الأسبوع، وتمتّنت علاقتي بهما خاصّة، ولاسيما بالدكتور محمد باقر علوان، ويوم ناقشت رسالتي للماجستير حضرا سويّة إلى قاعة المناقشة بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وكان لحضورهما أطيب الأثر في نفسي. أما سرادقات بيع الكتب في منطقة الحسين فكنا نداوم على زيارتها في شهر رمضان، وفي أثناء ذهابنا إحدى المرّات رفقتهما وقعت عيني على كتاب تهذيب اللغة للأزهري؛وكنت في حينها قد سجلت رسالة الدكتوراه في موضوع يدور حول معجم العربي، فأصر الدكتور محسن عليّ أن أشتريه لأهميته ولاسيما أني في بداية دراستي للدكتوراه؛ وحين اعتذرت عن شرائه بسبب ارتفاع سعره أصر أن آخذه فأخذته، وسبقني فدفع ثمنه مشكورًا رحمه الله.
مرّة دعاني الدكتور محسن إلى وجبة عشاء في شقته، وليتك ترى مدى الاختلاف بين شقتينا، فشقته في الزمالك، إجارها الشهري يتجاوز الخمسمائة جنية في سبعينيات القرن المنصرم، وشقتنا بمنطقة المنيل لا يزيد إيجارها شهري على خمسة وعشرين جنيها، ويخدمه في شقته طباخ وخادم وخادمة لا أدري كم يدفع لهم؛ وكانت عندنا شغَّالة ندفع لها خمسة جنيهات في الشهر. وبسبب كثرة زوارنا في الصيف والشتاء لم يبق من رونق على أثاث شقتنا، أما شقته، فأكاد أقول: إنها أفضل من شقق كثير من الدبلوماسيين وأثرياء القوم الذين عرفناهم في ذلك الزمن.وكانت مناسبة شرفت فيها بمعرفة زوجته الكريمة، وطفلتيه فاطمة ونادية؛ ويبدو أن كثرة زياراته لنا إلى وقت متأخر أحيانًا كانت محل انزعاج زوجته، فعاتبتي من طرف خفي؛ فأعلمتها أننا كنا نسعد بزيارته، وليس لنا من حديث إلّا سيرته العلمية ورحلاته ونصائحه، وقد نتحدث عن تجاربنا المعرفية المتواضعة، وما أنجزناه من جهد في دراستنا، أو نتحدث عن العراق وما وصل إليه من تقدم منظور في سبعينيات ذلك الزمن، وقد يحل علينا بعض الضيوف من شعراء مصر كأمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنَّة وأدبائها كالدكاترة جابر عصفور وأحمد مرسي وعبد المنعم تليمة وغيرهم كثر، وتلك مجالس بنكهتها العربية والحوارات المعرفية التي تجري فيها يحلو السمر فيها، وليس من الأدب أن نلفت نظره إلى تأخر الوقت.
كان الدكتور محسن كثيرًا ما يدعى لإلقاء محاضرات داخل القاهرة أو خارجها، وكان يصرُّ على أن أصطحبه؛ وحين دعي إلى جامعة الإسكندرية مرَّة قضيت ليال معه في تلك المدينة الحالمة، وقد أكون شاركته في بعض محاضراته الخاصة بتحقيق النصوص.
ومرّة دعاني إلى بيته وكنت في حينها قد قطعت شوطًا في إعداد رسالتي للدكتوراه -بإشراف الأستاذ الدكتور سيد يعقوب بكر تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه الذي كان عميدًا للكلية آنذاك- وفي أثناء العشاء باركت لي زوجته أم فاطمة، وقالت: لقد رشحك الدكتور محسن للدراسة في جامعة هارفرد، فأُخِذْت على حين غرّة، وكنت في حينها قد فصلت من وظيفتي لعدم التحاقي بها في وزارة التربية بحجة شديد حاجة الوزارة لخدماتي بحسبها، وهي حكاية من حكايات النكد التي رافقت مسيرة حياتي.
ولاشك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرسم طريق خلقه، إذ لم أكن على بينة بأهمية تلك الجامعة ومستقبل خرّيجيها الزاهر، ونظرت للأمر من منظارين الأول أني بعد سنة تزيد أو تنقص سأنهي دراستي، وأنقل خدماتي إلى وزارة التعليم العالي، في حين عليّ أن أبدأ في جامعة هارفرد من جديد، وحين سألته عن التفاصيل، قال: ستقضي سنة للتمكن من اللغة الإنجليزية، وبعدها تبدأ في البحث -أي أني سأقضي سنوات قبل حصولي على الدكتوراه- وقال: وفي السنة الثانية ستبدأ بتدريس العربية لغير الناطقين بها في الجامعة نفسها، وحين سألته عن درجات الحرارة في المدينة قال لي: إنها قد تصل إلى العشرين تحت الصفر أحيانًا في فصل الشتاء، وبعقل قاصر شكرته على لطفه واعتذرت عن قبول المنحة في تلك الجامعة لشدة برودة مناخ مدينة ماساتشوستس واعتداله في القاهرة، وقرب انتهائي من إعداد رسالة الدكتوراه؛ وقدر الله لي بعد قرابة ثلاثة عقود من الزمن أن أعمل أستاذا في جامعة سراييفو، وسراييفو من أشد مدن أوربا برودة، إذ قد تصل درجة الحرارة فيها أحيانًا إلى ما دون العشرين تحت الصفر أو فوقها، وقد يصل ارتفاع الثلوج في بعض مناطقها الجبلية إلى قرابة المترين، وقد تزيد.
مرّة بعد أن عرفت جوانب من سيرة الدكتور محسن ومكانته العلمية، قلت له بعقل قاصر: لو كنت وزيرًا للداخلية لأرسلت مجموعة لاغتيالك، فابتسم وتساءل؟ فقلت له: رجل في هذه المكانة العلمية يحرم بلده منها، فابتسم ضاحكًا، وقال لي: منذ خروجي من العراق قبل أكثر من عقدين، وأنا أتنقل بجوازي العراقي، ولم أتنازل عن جنسيتي،ولم أفكر باستخراج جواز أمريكيٍّ، وطيلة هذه المدّة، وأنا عضو عن العراق في أغلب المجامع العلمية العالمية والعربية، ولست عضوًا في مجمع بغداد، وأغلب الترقيات في الفلسفة والعلوم الإنسانية في الجامعات الأوربية والأمريكية لابد أن أستشار حول استحقاق صاحبها، ويوم ضاق بيتي بمكتبتي طلبت من رئاسة الجامعة نقلها إلى مكتبي، فوافقت الجامعة، وأنفقت قرابة مليون دولار على صناعة رفوف مناسبة لها؛ يقابل هذا أني ويوم عدت إلى العراق بعد حصولي على الدكتوراه من جامعة شيكاغو عينت مدرسًا للغة الإنجليزية بكلية الحقوق؛ وكأن العراق خلا من مدرسي هذه اللغة، فهل ترغب أن أعود إلى العراق كي أدرس اللغة الإنجليزية أو أُمَثّله في المحافل العلمية الدولية. هنا تبسمت وقلت له: من الخير له أن تمثلههناك، ولاسيما أنك مازلت تحمل جنسية بلدك وجوازه.
ومن عجائب الصدف أني اضطررت بعد عشرين سنة إلى الهجرة بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية التي أحاطت بي، وكانت أيّامي في ثمانينيات ذلك القرن وأوائل تسعينياته متخمة بالخوف والقلق.
بعد تخرج الدكتور محسن من الجامعة الأمريكية ببيروت حصل على منحة لدراسة علم الاقتصاد في جامعة شيكاغو سنة 1948م، ولكن ولعه بالفلسفة وعلومها -كما ذكرت من قبل- جرّه إلى التخلي عن الاقتصاد وعلومه نهائيًا، ولانتقال إلى دراسة الفلسفة وعلومها ومدارسها على يد أساطين علمائها في تلك الجامعة، وفي غيرها، وفي سنة 1954م أنهى أطروحة الدكتوراه، وكانت بعنوان (فلسفة ابن خلدون)، وقد نشرت بعد وقت قصير من مناقشتها، وترجمت إلى غير لغة.
درّس الدكتور محسن وحاضر في كثير من الجامعات الأوربية والعربية والإسلامية، وفي سنة 1957م عين بمنصب أستاذ مساعد في جامعة شيكاغو، ونال فيها درجة الأستاذية، واستمر بعمله في تلك الجامعة إلى سنة 1969م، ثم انتقل إلى جامعة هارفرد؛ واستمر في عمله فيها إلى حين تقاعده سنة 1996م، وفي أثنائها أصبح مديرًا لمركز دراسات الشرق الأوسط، وأستاذًا في قسم اللغات وحضارات الشرق الأدنى.
وخلال عمله بجامعة هارفرد دعي لزيارة غير جامعة أوربية وعربيّة كجامعة باريس وجامعة فرايبورغ في ألمانيا، والجامعة الأمريكية في القاهرة، ومركز الدراسات الإسلامية في باكستان، وجامعتي كاليفورنيا وبوردو، وجامعة محمد بن عبد الله بفاس التي كان لي شرف التدريس فيها مدة ثلاث سنوات من سنة 1981م إلى سنة 1984م، وقد قضى ردحًا من حياته محاضرًا في معهد العالم العربي حتى انتقل إلى جوار ربه في التاسع من شهر تموز سنة 2007م في مدينة بروكلن بولاية أوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية.
تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه ابن مدينة عين التمر التي لا تعرفه، وقد لا تكون شعرت به يوم ولادته أو انتقاله منها أو فاته.
وبسبب مكانته العلمية العالمية تمنيت على محافظ مدينة كربلاءتسمية أحد شوارعها أو مدارسها باسمه، فليس كل يوم ينجب العراق شخصية عالمية كالفقيد محسن مهدي.
جميع التعليقات 2
أ. د. حسن مجيد العبيدي
منذ 1 شهر
مقال جد مهم عن المرحوم الدكتور محسن مهدي استاذ الفلسفة الكبير والمعروف في العراق والعالم العربي ناهيك عن الغربي، وبودي هنا ان اقول: إن وزارة الثقافة والسياحة والآثار بشخص وزيرها الصديق د. حسن ناظم اقامت وباشرافه وبدعوة منه ندوة مميزة عن المرحوم محسن مهدي
نمير المهندس
منذ 1 شهر
مقال جميل وووفاء واخلاص من القلب، وطلب مشروع٠