TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عن الشمولية والفن الشمولي

عن الشمولية والفن الشمولي

نشر في: 27 أكتوبر, 2024: 12:01 ص

محمد عطوان

ما المقصود بالشمولية؟ وأين يمكننا أن نتخيل ابتداءً وجود مثل هذا المصطلح؟ وكيف تولّد عنه فنٌ سُمّي الفن الشمولي؟
الشمولية وصفٌ يُراد به التعبير عن منظورٍ فكري عام (سياسي، وفلسفي، واقتصادي، وجمالي).. هذا المنظور يحتكره نظامٌ سياسيٌ ما، وتنفذه إرادةٌ سياسيةٌ يقودها فردٌ أو حزب.
والشمولية (كرؤية أيديولوجية) توضع هُنا في مقابلةٍ حدّيةٍ مع حقيقة التعدّد والتنوع التي يحملها مجتمعٌ مُعيّن، فتمارس تمثيلاً طباقياً على المجتمع المُتعدد والمُتنوع بالضرورة، أي تحاول الجمعَ ما بين فكرة الشيء وضده، ما بين فكرة الاختزال والثراء، فيكون المجتمعُ - تحت تأثير هذه العلاقة - نتاجَ الرؤيةِ الشمولية التي تدّعي تمثيله.
فيكون وصف المجتمع هو وصف النظام السياسي له، وصورته هي الصورة المنعكسة للنظام السياسي فيه. فالشمولية - التي يتمثلها نظام سياسي ما - تسيطر على كُل جوانب الحياة الاجتماعية بما فيها جانب الفن.
يقول المؤرخ الروسي (كولمستوك) مهما يكن من وصف يُمكن أن يقال عن الفن الذي انتجته العهود الشمولية، فأنه يعد صنفاً من صنوف الفنون التشكيلية، أي أنه ظاهرةٌ في ذاتها، تمتلكُ فكرتها ونظرتَها الجمالية وأسلوبَها الفني الخاص.. ولها ذائقة ذهنية تدّعي الإحاطة بما هو جمالي، بما لهذا الجمالي من مهام تعمل على توجيه الكُل الوجهة المنشودة.
السؤال هو ما علاقة الفن الذي عُرف عنه أشياء ثرية ورحبة بذلك "الفن" الذي تصدره نسخةٌ سياسية توجيهية؟ وما الذي يجعل ما ليس فناً فناً شمولياً؟
ما هو بديهي إن البلدان التي خضعت للشمولية لم تكن واحدةً موحدةً في نسيجها الاجتماعي والثقافي والفلسفي والتاريخي، بل كان لكُل بلد منها تقاليده الثقافية الخاصة التي تختلف عن غيرها، إلا أن [هذه البلدان] تماثلت في انتاج خطابٍ واقعي شمولي واحدي عن تمجيدِ الذات وعبادةِ الشخصية وتبرير العنف الذي تمارسه نظمها السياسية.. لقد تماثلت مثل هذه النظم حول ما يُطلق عليه - في وقته - "الواقعية الشاملة"، التي يتوجب على شريحة الفنانين في كُل بلد العمل في ضوئها.
يقول الروسي كولمستوك عن هذا التماثل: "في أعماق النظام الشمولي الكثير من أوجه الشبه ما بين فنّ السوفيات والنازيين رغم العداء الأيديولوجي بينهم". فمعظم الفنانين كانوا يضعون على عاتقهم اظهار المضمونٍ الأسطوري لصور الحزب والقائد وانجازاتهما.
لم يرد الفنانون السوفيات تصوير ستالين كما هو في الواقع: قصير القامة، مجدور الوجه، أوقس الساقين، إنما عملوا على تقديمه مثالياً كما قدمه (شوربين) في لوحة the morning of our motherland.. والنازيون كذلك عملوا على اظهار هتلر مهيباً بالطريقة التي اظهرته الكاتبة والمخرجة (ليني ريفنشتال) عبر كاميرتها السينمائية - مُتعالياً وهو يقف على منصة فارهة يلوح بيده الممدودة فوق المسيرات الجماهيرية المتصاغرة في فيلم triumph of the will… ورضي البعثيون برؤية الرئيس صدام حسين للفن حين جعل من نفسه فناناً يزاحم الفنانين على رؤاهم خاصة عندما جعل نسخة مصبوبة من ذراعيه ضمن هيكل قوس فولاذي عملاق اسماه قوس النصر.. تعبيراً فنياً حياً للشمولية المتجسدة في هذا القوس.
يورد كنعان مكية في كتابه (قوس النصر) اقتباساً للروائي التشيكي (ميلان كونديرا) بخصوص ما أسماه الأخير بـ الكذب الحلو؛ كان (كونديرا) يُسمي ما تقوم به النظم الشمولية (قيادة وجموعاً وفاعليات بشرية متظافرة) بـ "الكذب الحلو"؛ يسميه بذلك عندما لا يصيب هذا النوع من التوجه الحقائق الحياتية المُعاشة كما هي في الواقع، أو يتفحص الوثائق، ويستحضر الشهود بروحية تدرك حقيقة ما تنطوي عليه طبيعة الأشياء.
الشمولية لدى هذه النظم لها منطقُها الخاص الذي يستند إلى هذا الكذب وحسب، الكذبُ الذي يتجاوز مرارة الواقع وتعقيداته، ليصير أمراً مفروضاً على العاملين بالفن أينما كانوا ووجدوا، ما يخلق تماثلات فجة وسخيفة، مكشوفة وسطحية ما بين الثقافات المختلفة؛ في ضمن ما أسماه (كولمستوك) "عالمية آليات الثقافة الشمولية."
يناقش مكية في (قوس النصر) مقولة (كونديرا) من خلال السؤال: ما كُلفة مجموع "الأكاذيب الحلوة التي تتجذر في بنية مجتمع ما؟ فيجيب عن ذلك بالقول: "إن كذبة يعيشها الناس زمنا طويلاً من حياتهم، على المستوى الشخصي أو الجمعي تكبلهم في النهاية بدَين للحقيقة، هذا الدَين عليهم دفعه، مهما كان باهظاً ومراً، يدفعونه لقاء قبولهم كم الأكاذيب المنتجة في حقبة من الحقب، ومن هذه الأكاذيب كذبة الهيكلٌ العملاق لقوس النصر، قوسٌ لنصر وهمي مُشاد في ساحة يُطلق عليها إلى اليوم ساحة الاحتفالات."
لقد أعد صدّام حسين نفسه في هذه الجزئية تحديداً فناناً، وبالطبع لم يكن فناناً بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، لكنّه تدخّل في العمل بوصفه فناناً لاسيما عندما تخيل فكرة النصب لأول مرة، ورسمها بنفسه.
يقول مكيّة قوس النصر عمل قبيح للغاية ولا يمكن إيجاد ذرة جمال فيه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، كما أنه منحطٌ اخلاقياً من حيث البشاعة والفحش المغرِق: يكفي تشخيص عمق الانحطاط الأخلاقي فيه من خلال:
أولاً: استعمال خمسة الاف خوذة إيرانية حقيقية مأخوذة من ساحات القتال بثقوب الرصاص التي هشمت رؤوس الرجال، وملطخة بدماء الذين كانوا يرتدونها.
ثانياً: الذراعان ليستا مثاليتين استناد إلى خيال الفنان، وإذا ما قيست بمعايير النحت الكلاسيكي اليوناني، بل هما ذراعا صدّام الحقيقيتان بعد أن صبتا بالجبس وضخمتا بشكل هائل لتشكلا قاعدة القوس.
ثالثاً: المعدن المستخدم في صب السيفين هو المعدن المصنوع من الأسلحة العراقية المنصهرة فحسب، لتتحول إلى مادة خام جديدة.
قوة الاثارة في ما يسميه مكيّة بـ فن قوس النصر تكمن في ان صدّام حسين "الفنان"، اذ لجأ إلى أسلوب صب ذراعيه في قوالب واستخدام خوذات إيرانية حقيقية وصهر أسلحة القتلى من الجنود العراقيين فقط ليبرهن حقيقة أنه القائد السياسي وصانع الدولة العراقية بعد العام 1968.
يقول مكية من الضروري مواجهة هذا النصب نقدياً من خلال تأمل طبيعة العقل الذي أنشأه وليس مواجهته من خلال ازالته.. أساسُ الفكرة إن العراقيين يحتاجون إلى أن يتعلموا من تاريخهم كي لا يتكرر، وهذا لن يحدث بمحو بعض ذلك التاريخ عبر التدمير العشوائي لرموزه.
مواجهة النصب عمليةُ استذكارٍ تقابلها عمليةُ نسيانٍ؛ ولكنّ، النسيان لا يأتي بتدمير رموز أنظمة الماضي، ففي اللحظة التي يختارُ فيها العراقيون ان يتحول هذا النصب إلى رمز لاستذكار قسوة النظام السابق، ينقلب معناه الأصل الذي أراده صدّام إلى عكسه تماماً.. لن يعود رمزاً يمجد الاستبداد، بل يصبح شاهداً على ذلك الاستبداد نفسه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: عجائب وقفية !!

البريكس.. عيون عراقية

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram