ستار كاووش
الى صديقي ماهر الربيعي
حين صرتُ وسط ساحة ماريا تيريسين بمدينة فيينا غطتني ظلال بناية متحف تاريخ الفن التي وَقَفَتْ مثل طائر كبير يفرد جناحيه حول المكان. تأملتُ الواجهة العظيمة لهذه البناية التي شُيِّدَتْ سنة 1891 على طراز عصر النهضة الايطالية وإزداد فضولي لمشاهدة الكنوز التي تحتويها، بما في ذلك التصميمات الداخلية الفريدة والأثاث. يعود الفضل في كل ذلك الى القيصر فرانز يوسف الذي بنا المتحف، حيث كان محباً للفن ولديه مجموعة عظيمة من التحف والأعمال الفنية. على الجانب الأيمن للمتحف كانت هناك كابينة خضراء مخصصة لبيع تذاكر الدخول، وهناك كان عليَّ الوقوف في صف طويل قبلَ أن أضع التذكرة بيدي وأتحرك نحو مدخل المتحف، وعند العتبة ألقيتُ نظرة خاطفة على التذكرة، فوقفتُ منبهراً وأنا أُقربها من عيني، يا إلهي ماذا أرى هنا؟ لقد طبع المتحف واحدة من أجمل التحف العراقية على بطاقة الدخول. فسحتُ المجال للآخرين للدخول ورفعتُ البطاقة من جديد نحو الأعلى وكأني أقربها من الشمس وتمتمتُ مع نفسي (يا للعراق المشرق المَهِيب). نظرت الى الناس حولي وفكرتُ بأن هذا المتحف -حسب الاحصائيات- يدخله مليون ونصف زائر سنوياً، وهذا يعني أن في هذه البقعة التي أقف عليها، هناك مليون ونصف انسان قد شاهدوا هذا العمل العراقى وأمسكوا صورته بأيديهم، وهذا هو معنى خلود الأعمال العظيمة، كهذه التحفة التي تعود لحضارتنا البابلية قبل ألفين وستمائة سنة تقريباً، وهو عبارة عن أسد مزجج بالألوان من الجدار المحاذي لبوابة عشار. هل هناك بداية أجمل من هذه للدخول الى متحف للفن؟
تتكون مجموعة هذا المتحف من أعمال فريدة كان الكثير منها يعود الى عائلة هابسبرغ العريقة التي ينتمي لها القيصر يوسف فرانز يوسف، وأول ما يفاجيء الزائر هنا هي المفروشات وطريقة التأثيث والديكورات المذهلة التي تعود الى الأسلوب الايطالي القديم، فيما الأعمال الفنية شملت آلاف السنوات من الإنجازات البشرية، مثل الفن العراقي القديم والفن المصري والإغريقي والروماني وعصر النهضة المتقدم والباروك، إضافة الى الفن الساحر للشمال الأوروبي. وهذا كله يعكس جانباً من ميول وذوق هذه العائاة التي جمعتْ شرق الأرض وغربها في بناية واحدة تُعتبر أهم متحف في فيينا، حيث يزوره الناس من كل مكان في الأرض.
يوماً كاملاً قضيته متجولاً بين تاريخ الفن ومراحله المختلفة، لكني قبلَ أية خطوة توجهتُ نحو الأسد العراقي وتأملتُ ما قام به الأجداد، حيث قام فنان عراقي من بابل العظيمة بإنجاز هذا الأثر الفني المذهل الذي يَقف أمامه الآن وبعد كل هذه القرون فنان عراقي آخر. فنانان عراقيان في صالة واحدة، ورغم أن ألفين وستمائة سنة تفصلهما، لكن الجمال هو الذي يجمعهما. خرجتُ من القاعة بعد أن رفعتُ يدي تحية لإبن بلدي البابلي العظيم ومضيتُ منتشياً أتنقل بين أعمال تيتيان وانجازات ديورر، أتأمل لوحات روبنز وأقف أمام تحف فان دايك، وبين هذا وذاك أمتع بصري بأعمال فيلاسكيز المذهلة التي رسم فيها الأميرة مارغريت. ولا يمكنني أن أنسى هنا طبعاً، القاعات المليئة بالآلات الموسيقية القديمة النادرة، كذلك الصالات التي خُصصتْ للقطع النقدية. هكذا امتلأ المتحف بتحف من كل زمان ومكان، وهو يضم بين أروقته عموم تاريخ الفن. مع ذلك مازلتُ أبحث عن مجموعة فريدة من اللوحات التي أود الوقوف بحضرتها، وأقصد لوحات الفنان برويغل، والذي يضم هذا المتحف أكبر مجموعة له في كل العالم. وحين وقفتُ وسط صالة برويغل، لم أصدق بأن كل هذه اللوحات موجودة في متحف واحد! من أين أبدأ؟ لكني دون تفكير توجهتُ بشكل عفوي نحو لوحتي المفضلة، وهي حفلة زواج في القرية، والتي شاهدتُ صورتها لأول مرة في صباي بمجلة العربي التي كانت تطبع صور لوحات شهيرة على الصفحة الداخلية للغلاف، ومنذ ذلك الوقت تعلقتُ كثيراً بهذه اللوحة. ها أنا أخيراً وجهاً لوجه مع لوحة عظيمة بكل معنى الكلمة، وقفتُ أتأمل الفلاحين وهم يهيؤون مأدبة الحفلة المرتقبة، حيث يحمل رجلان من رجال القرية لوحاً خشبياً كبيراً -هو في الحقيقة باب خلعوه تواً من أحد بيوت القرية- محملاً بأطباق الأكل، بينما وقف الموسيقـيون متأهبين لبدء العزف، وفي الزاوية القريبة إنشغل أحد الرجال بمليء الجرار بالشراب كي تأخذ أماكنها على الطاولة الكبيرة، وقد جلسَ أحد الأطفال على الأرض وشردَ بخياله الطفولي وهو يلعق بعض الطعام المتبقي في أحد الأطباق، فيما جلستْ العروس وسط المدعوين، شابكة يديها بإنتظار الاختلاء بحبيبها بعد إنتهاء الحفلة التي سيملؤها الصخب، وتغمرها رقصات الفلاحين وكؤوسهم العامرة. الدعابة واضحة في هذه اللوحة، والتقنية الفريدة تُزيدها جاذبية وقوة، والروح الهولندية الفلامنكية تشع من كل مكان في هذه التحفة، حتى تكاد تشم رائحة نبيذ القرية وتسمع النكات البذيئة التي يرددها الفلاحون. إنها قطعة من حياة الناس في القرن السادس عشر، وهذا ما وضعها في مكانة عظيمة وخالدة في تاريخ الفن. أكملتُ جولتي بين أعمال برويغل التي تناولت حياة الفلاحين ورقصاتهم وخروجهم للصيد واحتفالاتهم البهيجة، وكل ما يعيدنا الى روح هولندا وسحر المتعة التي لم تختفي من الأراضي المنخفضة الى يومنا هذا.
خرجتُ من المتحف تصاحبني خيالات فلاحي برويغل، وأخرجتُ بطاقة المتحف من جيبي لأنظر اليها من جديد متأملاً الأسد العراقي. وقبل أن أكمل طريقي أعدت البطاقة الى جيبي لأني سأحتفظ بها الى الأبد.