حسن الجنابي
تميزت الدورة البرلمانية الحالية في العراق بفرادة لا نظير لها في العالم. فقد أسفرت الانتخابات الأخيرة في نهاية العام 2021 عن فرز واضح بالمقاعد وبروز كتلة فائزة بعدد كبير من المقاعد بلغ 73 مقعداً، وبفارق 36 مقعداً عن أقرب المنافسين. وإذا ما أخذ بالاعتبار السياق الذي جرت فيه تلك الانتخابات، والشعارات التي رافقت صعود الكتلة الصدرية حينها، يمكن التأشير على أن خطوة جريئة كانت على وشك الحدوث باتجاه صيغة "الأغلبية الوطنية" التي تبتعد بشكل جلي عن نظام المحاصصة. فالأخير كبّل العمل السياسي منذ عام 2003 وأنتج سياقات عمل، نعتقد أنها أدت وظيفتها بعد فترة وجيزة من سقوط النظام السابق، لكنها تحولت فيما بعد الى ممارسة مضرّة بالمصالح الوطنية العليا على المديات المتوسطة والطويلة.
أجهضت محاولة الإفلات من المحاصصة. ومثل مرّات سابقة، أفرغت الانتخابات من مضمونها، ودفعت بعيداً عن هدفها في تأكيد حكم الكتلة الفائزة، التي انسحبت بقرار سياسي غير مسبوق ولا متوقع. ارتبكت إثر الانسحاب تشكيلة المقاعد البرلمانية وذهبت مقاعد الفائزين المنسحبين الى المرشحين الخاسرين، وعادت صيغة المحاصصة بقوة أكثر شراسة.
بعد المخاض المعتاد للتشكيل الحكومي بُعيْد الانتخابات، ليس بسبب صراع البرامج بل بسبب صراع الأشخاص والمجاميع، صار لدينا وبضربة حظ، رؤساء جدد للبرلمان، ومن ثم بعد عام، للجمهورية وللحكومة طبعاً.
لكن لعبة التحاصص ليست بالبراءة التي تسوّق على المجتمع، باعتبارها تمثيلاً "للمكوّنات". فقد سلبت المحاصصة حق المواطنة لصالح المغانم الفئوية، وأمست وسيلةً للتلاعب بإرادة الناخبين والمنتخَبين على حد سواء، بحيث حصل من لم يدخل سباق الانتخاب أصلاً، ولأكثر من مرة، على المنصب الأول في الدولة. تفجرت إحدى جولات اللعبة بتواقيع النواب الجدد على ورق أبيض كاستقالات وهمية خالية من التواريخ، فأطاحت تلك الممارسة المهينة برئيس البرلمان، الذي كان لاعباً أساسياً بالتشكيلة، بتهمة التزوير، وما يعتبره القانون من الجنح المخلة التي لا تسمح لصاحبها بالاستمرار بوظيفته.
بعد الإطاحة برئيسه، لم ينشغل مجلس النواب بالتشريعات المطلوبة أو المؤجلة او المعطلة أو الدستورية، بل انشغل غالباً بمواضيع تؤمن حياة أكثر ترفيهاً لأعضائه. فقد قرر في غفلة تائهة من الزمن العراقي زيادة في رواتب الأعضاء، وانشغل بنقاشات تتعلق بسن الزواج وقضايا الجندر ومنع الخمور وغيرها من مواضيع احتياطية تصلح إثارتها لتحريك المياه الراكدة في أوقات "الاسترخاء".
الأكثر غرابة في نشاط البرلمان العراقي هو استعادة رئيس سابق له للرئاسة مجدداً في زمن ملتبس. فقد سبق للرجل أن استقال من منصبه كرئيس لمجلس النواب مقابل حزمة امتيازات واشتراطات كان بارعاً في استحصالها، ليتفرغ بعدها للتنظير السياسي الذي انطوى على نقد لاذع وإدانة واستخفاف غير مسبوقين بالطبقة السياسية والأحزاب والطوائف والفساد.
سبق للرجل كذلك أن جرّب حظه مجدداً في البرلمان الجديد حينها. فقد رشح نفسه لرئاسته من جديد ولم يحصد سوى 14 صوتاً من أصل عدد الأعضاء البالغ 329 نائباً. لكنه بحسّه الحاذق بتعقيدات العملية أبقى عينه على كرسي الرئاسة الى أن استوى له الأمر بعد مرور ثلاثة سنوات من عمر الدورة الانتخابية الحالية، فأنيطت به مهمة الرئيس "المنقذ" في لحظات من المخاض المنفلت تحت سقف البرلمان. وقد استفاد في دوره الجديد، كرئيس معاد تدويره، أيما استفادة من تجاربه السابقة، وأظهر براعة في المناورة، وقدرة على تحدي الرأي العام المعترض على حزمة مشاريع جدلية ومثيرة للانقسام تخص ميادين متنوعة، ومرّرها في صفقة واحدة، بوقت يقدّر برمشة عين، كان يستحيل معها حساب عدد الأيادي المرفوعة أو المعترضة أو المتحفظة. غادر الرئيس المخضرم القاعة مباشرة بعد "التصويت" المفاجئ على الصفقة التشريعية وسط ذهول غالبية أعضاء المجلس، بطريقة تذكرنا بمغادرته للقاعة في حادثة مشابهة محمولاً على سدية طبية الى المستشفى، وذلك في أول جلسة للمجلس النيابي، باعتباره العضو الأكبر سناً. فقد تمارض حينها بحركة مسرحية مثيرة بعد عجزه عن إدارة الجلسة، وتنفيساً لاحتقان الوضع في ظل صراع على تسمية البدعة السياسية العراقية المسماة "الكتلة البرلمانية الأكبر".
أما الأكثر تحدياً للمنطق والعقلانية في أداء مجلس النواب فهو قرار المجلس بمنح أعضائه الحاليين والسابقين وعوائلهم جوازات سفر دبلوماسية مدى الحياة. فهذا المشروع من صنف "اللا مفكر فيه". أي أن الفكرة قد تكون انبثقت في رأس أحد أعضاء مجلس النواب العابرين، وقد يكون قد أغرى بها بعض المقربين، لكنه سرعان ما وجد في البيئة البرلمانية بيئة ساندة لكل ما يكرس ويراكم امتيازات الأعضاء مهما كلف الأمر من ردود أفعال لدى الرأي العام.