د. طلال ناظم الزهيري
الزمان: عام 2001. المكان: العاصمة الهنغارية (بودابست). الحدث: مبادرة بودابست للوصول الحر. تلك المبادرة التي وقع عليها أكثر من 6000 باحث و800 منظمة عالمية، لتنهي عصر احتكار دور النشر العالمية لعقود من الهيمنة والتفرد في مجال النشر، وتفتح الأبواب على مصراعيها للشركات الصغيرة أو المنظمات غير الربحية للخوض في هذا المضمار. كانت هذه المبادرة تهدف إلى تيسير سبل الباحثين في نشر أبحاثهم، فضلاً عن تعميق ثقافة المشاركة العلمية وتبسيط إجراءات النشر الورقي والرقمي. ولا يمكننا أن نغفل دور الإنترنت، خصوصًا في جيلها الثاني، حيث وفرت منصات التدوين المجانية ومواقع النشر الرقمي، فضلاً عن مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي. حتى أصبحت فكرة كتابة مقال ونشره على الإنترنت أسهل بكثير من التفكير في شرب فنجان قهوة. وعلى الرغم من أن الإنترنت ببساطتها الشديدة أتاحت لنا كمًّا هائلًا من النتاج الفكري الذي لم نكن نحلم بالوصول إليه حتى في أعظم المكتبات العالمية، فإنها أيضًا سمحت لنا، كباحثين، بنشر أبحاثنا ومقالاتنا بحرية وسرعة كبيرتين. ولأن الجودة تفرض نفسها، أصبح أصحاب الحضور العلمي على شبكة الإنترنت هم الأكثر إسهامًا في النشر العلمي. ربما يكمن السبب في أن الإنترنت، بما تقدمه من حرية النشر والتعبير، أتاحت أدوات عديدة لكشف الانتحال والسرقة العلمية، مما أبعد أصحاب بحوث "النسخ واللصق". حتى أصبح النشر على الإنترنت هو الضمانة الأكيدة للحفاظ على الملكية الفكرية للأعمال الأدبية والعلمية.
قد يبدو هذا غريبًا، خاصة مع الاتهامات الموجهة للإنترنت من الأوساط الأكاديمية بشأن انتشار ظاهرة السرقة العلمية. ومع ذلك، أؤكد أن العدد الهائل من حالات السرقة التي اكتُشفت مؤخرًا ما هو إلا دليل على أن تلك السرقات كانت تحدث سابقًا، ولكنها لم تكن تُكتشف في غياب الإنترنت. نعم، السرقات العلمية كانت تحدث مرارًا وتكرارًا، وفي مختلف دول العالم، لكن الكشف عنها كان مستحيلًا. فكيف يمكن، مثلًا، اكتشاف رسالة جامعية أُنجزت في كندا وتلقفها طالب في جنوب إفريقيا لينسبها لنفسه؟ أو بحث علمي نُشر باللغة الروسية وأُعيد نشره بلغة أخرى؟. لكن بفضل الإنترنت، لم يعد هذا الأمر صعبًا. لذا، يجب أن نعترف بأن حرية النشر والوصول إلى المعلومات قد أسهمتا بشكل غير مباشر في الحد من حالات الانتحال.
ما يقلقنا الآن كباحثين ليس موضوع السرقات العلمية التي بدأت تنحسر تدريجيًا، خاصة مع اعتماد معظم الجامعات والمؤسسات الأكاديمية على مواقع كشف الانتحال وإخضاع البحوث والرسائل العلمية لإجراءات كشف الاستلال. ما نخشاه هو ظهور ما يُعرف بـ"الدوريات الوهمية". هذه الدوريات ظهرت بالتزامن مع محاولات دور النشر العالمية الكبرى إعادة هيمنتها على ميدان النشر العلمي من خلال الترويج لمفهوم "معامل التأثير" [Impact Factor]. لقد أكدنا في مقالات سابقًة أن شروط الحصول على معامل تأثير عالٍ غالبًا ما تصب في مصلحة مؤسسات النشر الكبرى في الدول المتقدمة على حساب دوريات الدول النامية. هذا الوضع دفع بعض الباحثين في الدول النامية إلى السعي للنشر في دوريات ذات معامل تأثير عالٍ، على حساب الدوريات المحلية، مما أدى إلى تهميش الأخيرة. بعض الأشخاص أو المؤسسات غير المعروفة استغلوا هذا الوضع، مستفيدين من تعطش الباحثين للظهور في دوريات عالمية، للترويج لعناوين دوريات وهمية غايتها الربح المادي على حساب الرصانة العلمية. هذه الظاهرة سلطت الضوء على نوع جديد من الاحتيال. ينطلق هؤلاء الناشرون من اختيار أسماء براقة مثل "المجلة الأوروبية لعلوم كذا…" أو "المجلة السويسرية للأبحاث في…". ثم يستهدفون الباحثين برسائل شخصية موجهة بعناية، مشيدين بأطروحاتهم مع دعوة للنشر بمقابل مادي يتراوح بين 500 و800 دولار. وغالبًا ما تكتشف الضحية لاحقًا أن المجلة إما وهمية تمامًا أو لا قيمة علمية لها. لحسن الحظ، هناك جهود بارزة للكشف عن هذه الدوريات الوهمية. من بين أبرز المتصدين لهذه الظاهرة "جيفري بيل"، الجامعي المتخصص في علم المكتبات بجامعة كولورادو في دنفر. خصص "بيل" موقعًا إلكترونيًا باسم "Scholarly Open Access" لتعقب الناشرين المفترسين، ونشر معلومات تفصيلية عنهم وأساليبهم في الاحتيال. ومنذ عام 2009، فضح آلاف "المجلات المفترسة"، التي تضطر أحيانًا لتغيير أسمائها أو الاختفاء مؤقتًا. جهوده تلك أصبحت مرجعًا موثوقًا للمؤسسات الأكاديمية حول العالم.
وفي ظل تصاعد التحديات الأكاديمية المرتبطة بالنشر العلمي، أصبح من الضروري النظر بجدية إلى ظاهرة الدوريات الوهمية التي تستغل الباحثين، لا سيما في الدول النامية مثل العراق. هذه الظاهرة تفاقمت نتيجة الربط الوثيق بين التصنيفات العالمية للجامعات ومؤشرات النشر العلمي، حيث تلجأ العديد من الجامعات في الدول النامية إلى فرض شروط صارمة على الباحثين للنشر في مجلات عالمية ذات معامل تأثير مرتفع. على الرغم من أن هذه السياسات تهدف إلى تحسين تصنيف الجامعات دوليًا، إلا أن نتائجها السلبية ظهرت بوضوح، إذ أن النشر في تلك المجلات غالبًا ما يكون معقدًا ومكلفًا، مما يجعل العديد من الباحثين عرضة للاستغلال من قبل الدوريات الوهمية التي تقدم نفسها كبديل مغرٍ ولكن غير موثوق. وللتصدي لهذه الظاهرة في العراق، يمكن تبني مجموعة من الإجراءات والحلول التي تركز على تطوير بيئة أكاديمية محلية رصينة.
من بين هذه الحلول إنشاء مجلات علمية محلية تلتزم بمعايير النشر الدولي وتوفر منصة موثوقة للباحثين العراقيين. هذه المجلات يمكن أن تكون مدعومة من قبل الجامعات أو وزارة التعليم العالي، مما يساهم في تخفيف الضغوط المتعلقة بالنشر في مجلات خارجية مكلفة. إلى جانب ذلك، من المهم تعزيز الوعي بين الباحثين حول كيفية التمييز بين المجلات الرصينة والدوريات الوهمية، وذلك من خلال ورش عمل ودورات تدريبية تُركز على استخدام أدوات كشف النشر المفترس. كما يجب إعادة النظر في سياسات التصنيف الأكاديمي التي تعتمد بشكل كبير على النشر في مجلات ذات معامل تأثير عالٍ. بدلاً من ذلك، يمكن التركيز على جودة الأبحاث ومدى تأثيرها في حل المشكلات المحلية وتلبية احتياجات المجتمع. وفي إطار تعزيز الشفافية والمصداقية، يجب أن تلعب منصات النشر المفتوح دورًا أكبر في دعم الباحثين العراقيين، حيث توفر هذه المنصات بيئة مرنة وشفافة للنشر العلمي دون التكاليف المالية المرهقة التي تفرضها بعض المجلات العالمية. كذلك، فإن الاستثمار في تقنيات كشف الانتحال والاحتيال العلمي وربطها بسياسات جامعية صارمة من شأنه أن يعزز النزاهة العلمية ويقلل من احتمالات الوقوع في فخ الدوريات الوهمية. ولا شك ان التعاون الدولي يمكن أن يكون أيضًا عنصرًا حاسمًا في تعزيز الحضور الأكاديمي للعراق، من خلال بناء شراكات مع جامعات ومؤسسات بحثية عالمية، مما يفتح المجال للنشر المشترك في مجلات رصينة ذات مصداقية. كما يجب أن يُنظر إلى أخلاقيات البحث العلمي كجزء أساسي من منظومة التعليم العالي في العراق، من خلال تضمينها في المناهج الدراسية وتثقيف الباحثين بأهميتها. مع كل هذه الجهود، يبقى السؤال مطروحًا حول مدى قدرة المؤسسات الأكاديمية والبحثية في العراق على مواجهة هذه التحديات وتحقيق التوازن بين متطلبات التصنيفات العالمية وضمان النزاهة العلمية. إن معالجة هذه الإشكاليات تتطلب تعاونًا واسع النطاق بين الجامعات والمؤسسات البحثية والحكومية لضمان مستقبل أكاديمي أفضل.