بقلم الكاتب الإيراني محمود سریع القلم
ترجمة عادل حبه
تواجه المجتمعات التي ترتكز ثقافتها العامة بشكل أكبر على الثقافة الشفوية العديد من الصعود والهبوط. إلاّ أنه عندما تكون وسائل التفاعل الثقافي بين النخب (صنّاع القرار والمؤثرين) هي الأخرى لفظية أيضاً، فإن الصعود والهبوط يفسح المجال للأزمات وتكرارها.
ما المقصود بأداة التفاعل الثقافي؟ دعونا نوضح هذا بمثال. هل سبق أن أتيحت لك الفرصة للتفكير في سبب شعور رجال الدين من جميع المذاهب والتيارات الفكرية بأنهم قريبون بعضهم لبعض؟ ربما يكون أحد الأسباب الحاسمة هو أن لهم "قراءة نصوص مشتركة". كما أن لديهم كتب وطروحات وادبيات ومفاهيم مشتركة. وحتى لو اختلفوا فيما بينهم، فإنهم يلجأون إلى آليات التفاعل والتسامح فيما بينهم.
وللديمقراطية أيضا نصوصها وأدبياتها ومفاهيمها. وعلى مر القرون، تطورت هذه الادبيات وأصبحت الرابط الفكري بين النخب. وتحتاج النخب، بما في ذلك الكتاب والصحفيين والسياسيين والفنانين والمبدعين، إلى نصوص وأدبيات مشتركة لتكون قادرة على الاستجابة لحكمها وتأثيرها. وتتشابك النصوص والمفاهيم المشتركة بين جميع نخب النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وبدأت التجربة نفسها في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مع ديمقراطية جان بودن (1595-1596) وتستمر في التطور مع الكتابات الشاملة لـ يورغن هابرماس (1929-1919). وعلى الرغم من أن الديمقراطية قد شهدت تطبيقات مختلفة في فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا والولايات المتحدة، إلا أنها تتمتع عموماً بمبادئ ومفاهيم مشتركة.
كيف يمكن للمرء أن يصبح ديمقراطياً ولديه سلوك وأفكار ديمقراطية، ولكنه لم يقرأ على الأقل النصوص التالية من بين مئات الأعمال الجادة:
* العقد الاجتماعي (1762) / جان جاك روسو
* الأوراق الفيدرالية (1780) / ألكسندر هاميلتون
* الديمقراطية في أمريكا (1835) / أليكسيس دي توكفيل
* في الحرية (1859) / جون ستيوارت مل
* الديمقراطية والتعليم (1916) / جون ديوي
* الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية (1942) / جوزيف شومبيتر
* أصول الشمولية (1951) / حنا أرندت
* مقدمة للديمقراطية (1956) / روبرت أوين
* الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية
* عجلات التجارة (1979) / فرناند بروديل
تخيل أن حوالي 20.000 إلى 30.000 عضو من النخبة في الدولة، بما في ذلك السياسيين والكتاب والأكاديميين والعلماء والصحفيين ورجال الأعمال، يقرأون هذه الكتب (وما شابهها) خلال الفصل الدراسي ومع الأستاذ. ويؤدي مثل هذا الأدب المشترك إلى نظام فكري واستنتاجي مشترك. وتشهد دراسة لتاريخ أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان أن المعتقدات الشائعة للنخب تتحول تدريجياً إلى ثقافة عامة. وتصبح النصوص المشتركة للنخب رؤية للعالم ثم تظهر بوعي أو وبدون وعي على أنها استنتاجات عامة.
عندما نطالع التاريخ الاجتماعي والسياسي لمجتمعنا، لا نشاهد أي تماسك فكري داخل النخب. فمنذ الحقبة القاجارية فصاعداً، فكل مجموعة من النخب ندرسها تتشكل من تيارات فكرية مختلفة، ولكل منها معتقداتها الخاصة وتعيش وتعمل في مداراتها الخاصة. خلال القرن الماضي، كانت هناك عدة مجاميع من الأدبيات، يتصارع بعضها مع البعض.
وخلال الحقبة البهلوية، كانت أدبيات النخبة السياسية تميل إلى القديم، في حين آمن جزء كبير من الكتاب والأكاديميين بالأدب اليساري، وفي الوقت نفسه، آمن النشطاء الاقتصاديون بمزيج من الليبرالية والتجارة التقليدية؛ على الرغم من أنه منذ عام 1934 إلى عام 1941، ومن عام 1969 وإلى عام 1978، تم تلخيص كل الاستنتاجات وصياغة السياسة والإدارة بنهجين.
وبالمقارنة، تخرج الكثير من النخبة الفرنسية من الكليات حيث تم تدريس الاقتصاد والسياسة والقانون (Sciences Po). في حين أن الأدبيات والنصوص والكتب المتعلقة بالديمقراطية خلال 120 عاما الماضية لم تحتل الكتب الخاصة بتاريخنا الاجتماعي والسياسي إلاّ بمساحة محدودة، ولم تتحول إلى أدبيات سائدة بين الكتاب والصحفيين والسياسيين والأكاديميين والمبدعين. ولم تؤد الدراسات والمحاضرات المتفرقة حول الديمقراطية إلى انسجام وإجماع فلسفي ومعرفي في نهاية المطاف.
وخلال القرن الماضي، يمكن الإشارة إلى أربع دوائر يسارية ودينية ووطنية وديمقراطية في الساحة الاجتماعية والسياسية. على الرغم من أنه يمكن في بعض النواحي، الحديث عن تداخلات بين هذه الدوائر الأربع . ولكن بشكل عام، فقد تصرفت هذه المجاميع بشكل مستقل بعضها عن البعض، والأهم من ذلك، كان لكل منها نصوصها وأدبياتها وكتبها الخاصة. فعلى سبيل المثال، فإن كلا من هذه التيارات لديها إجابات على سؤال رئيس حول التنمية لا يمكن جمعها وتحويلها إلى سياسة للحكم. ففي العالم الذي نعيش فيه وبهذه المنظومة التي يتعين علينا إدارة المجتمع، هل من الواجب، من حيث المبدأ، "إنتاج الثروة" أم لا؟
السبب الرئيس للصعود والهبوط المستمر في مجال صنع السياسة وانقطاع وانفصال الأنظمة السياسية في مجتمعنا هو فقدان الاجماع في الأدبيات التي تجمع كل آراء النخب. ما هي القواسم المشتركة التي تجمع بين خريج قسم الاقتصاد بجامعة كامبريدج ويعمل في مجال الميزانية من جهة، وبين عضو في المجلس ليس لديه تعليم جامعي سوى الدراسة في الحوزة من ناحية أخرى؟ كلا الطرفان هما من النخبة في البلاد، درس هذان العضوان من النخبة في البلاد نوعين من الأدبيات والنصوص، ولديهما تفسيرات مختلفة تماماً للمصطلحات والمفاهيم مثل التنمية والثقافة والعلاقات الدولية وإنتاج الثروة والدبلوماسية، والتي قد لا يكون لبعضها أية صلة. أخيراً، عندما يكون للعشرة أو الخمسة عشر ألفاً من الذين يؤلفون النخبة العديد من المصادر الاستدلالية المختلفة، فإنهم يلجأون إلى دائرة العموميات والإبهام وتغيير الوضع ومواجهة التقلبات اليومية المستمرة في المواقف والصعود والهبوط المستمر والسلوكيات المتناقضة.
للديمقراطية وجهة نظرها الخاصة عن الإنسان والمجتمع والوقت والإنتاج والإعلام والسلطة والمصلحة العامة وتكوين الثروة والحرية والتنظيم الاجتماعي والنظام الدولي. وعلى الرغم من أن هذه التعاريف والآراء ليست مطلقة، إلا أنها لها مبادئ ثابتة. فالديمقراطية، على سبيل المثال، تقر بمبدأ التعددية في الأفكار وتقر بـ "حق" البشر في تبني وجهات نظر مختلفة. ولكن إن العديد من وجهات النظر في العالم الثالث لا تعترف بهذا الحق. أتذكر شخصاً في "دافوس" في عام 2015 التقى بممثل مكتب المستشار الألماني، وضمن الحديث عن وجود مليون مهاجر سوري في البلاد، أشار المسؤول الألماني إلى أن الحكومة الألمانية وقعت عقداً مع جامعة الأزهر في مصر يقضي بإرسال 120 مفتي لوعظ المهاجرين السوريين المسلمين. هذه الخطوة هي نموذج من التفكير بالحقوق المذهبية للمهاجرين المسلمين في ألمانيا، قبل أن تكون ضرباً من الممارسة السياسية.
إن أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل مجتمعنا غير ديمقراطي هو افتقار مجموعة واسعة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين والسياسيين والمبدعين إلى حيازة اللغات الأجنبية المهمة مثل الإنجليزية والفرنسية والعربية. فلا تمكن مقارنة قراءة النصوص والأدبيات حول أي موضوع بلغته الأصلية، بأي حال من الأحوال مع ترجماتها. حيث تختفي روح الكلمات والمفاهيم في الترجمة، وليس من الواضح إلى أي مدى يتعرف المترجم على دقة نتاج المؤلف وصياغته. بالتوازي مع الدراسة والفهم الدقيق للنصوص والأدب الخاص بنظرة عالمية، فإن العثور على الإيمان والتعمق في ثقافة تلك النصوص واستيعابها هو جانب آخر من صعوبات تفعيل تلك النظرة العالمية. وبعبارة أخرى، فإن دراسة النصوص الديمقراطية والسلوك الديمقراطي هما موضوعان مختلفان. فمن خلال فحص الأنظمة الديمقراطية، يبدو أن السلوك الديمقراطي لن يظهر إلاّ إذا تم إنشاء نظام قانوني ديمقراطي.
تعمل كل من اليابان وألمانيا بنظام واحد. ويقع النظام الفكري والاستنتاجي في كلا البلدين تحت تاُير المعتقدات المشتركة للطبقات المختلفة من النخب في هذين البلدين. وتتأثر المعتقدات المشتركة بدورها بالأدبيات والنصوص المشتركة والنظام التعليمي المتكامل. ولكن مفردة الديمقراطية تستخدم في مجتمعنا بشكل رئيس في الخطابات وبشكل شفهي، وليس لها دعم تاريخي أو بحثي موثق. حتى لو افترضنا أنه تمت دراسة المزيد من الأدبيات في العقود القادمة، فإن التحدي التالي هو السلوك الديمقراطي. فطالما أن النظام القانوني للديمقراطية (حتى في كوريا الجنوبية وشيلي) لا يتم إرساؤه في المجتمع ، فمن غير الواقعي توقع شيوع السلوك الديمقراطي.
في عام 2001، أشرت على أحد الناشطين السياسيين بالملاحظة التالية: أنتم تسعون إلى التنمية السياسية أو إلى الديمقراطية، أو أنكم لستم على دراية بنصوص الديمقراطية، وبذلك فإنكم لستم على معرفة بمجتمعكم. في الواقع لا يمكن تحقيق الديمقراطية بـ 5٪ من معتقدات النخبة في البلاد. الديمقراطية هي عملية طويلة تحتاج إلى التعليم والمطالعة والإدراك المشترك للمفاهيم الديمقراطية. وفي ظل الديمقراطية هناك قدر كبير من التعددية وحتى الصراع الفكري بين النخب في المجتمع. في حين هناك القليل من الإيمان بالديمقراطية بين النخب ولا توجد آلية قانونية لها في بلادنا. فلا يمكن تحقيق الديمقراطية من خلال الخطب والتجمعات. يجب أولاً القبول بأدبيات ونصوص الديمقراطية من قبل المجموعة النخبوية مع التعهد بالالتزام بها.
وعلاوة على ذلك، ينبغي ايجاد تحول جذري في الثقافة التي تكرست في المجتمع وفي الوعي بما يؤدي إلى القبول بالثقافة الديمقراطية التي يجب أن تنتقل من جيل لآخر. وليس من قبيل الصدفة أن المشاريع المشروطة والحرية السياسية والدعوة للديمقراطية لم تشهد تحولاً هيكلياً في بلادنا وأصابها الفشل على مدى 120 سنة الماضية الواحد تلوة الأخرى. إن أحد الأسباب المركزية لذلك هو عدم إلمام غالبية الناشطين بالأدبيات النظرية للتغيير وبناء الدولة. فالنخب والمجتمع الذي لا يقرأ الكتاب لا يستطيع أن يحقق فكرة التغيير ولا يمكن توقع أن يعم السلام في البلاد. ويكفي أن نطالع بدقة وبالتفصيل تاريخ اليابان وكوريا الجنوبية. وليس من قبيل الصدفة أن يقال إن الفرد يساوي ما قرأه.