ليس هناك كاتب من كتّاب اللغة الألمانية أثر في أجيال عديدة في العالم مثل كافكا، وإن محبيه ليسوا بالضرورة شركاءه في المواطنة أو في اللغة الألمانية التي كتب بها. كافكا يملك أخوة في الروح والعذاب، على طول الأرض وعرضها، بغض النظر عن اللغة والبشرة والدين. "آه، كم هو طويل الطريق للآخرين بالنسبة لي". حتى اليوم ما زال بينه وبين أولئك الذين لم يفهموه، أينما كانوا مسافة طويلة. أما شركاؤه الذين يتقاسمون معه القلق الوجودي والخوف من الحياة ويكتبون عن تشرد ونفي الإنسان، فيتوزعون هم الآخرون على خارطة العالم. قائمة طويلة تلك التي يمكن أن تضم أسماء الكتاب العالميين الذين تأثروا بكافكا، ويكفي ذكر بعض منهم: وليم فوكنر، غارسيا ماركيز، جورج أورويل، ميلان كونديرا، باول أوستير وأورهان باموك (وإن أصر الأخير على تأثره بنابوكوف...الخ)، ولكن بعيداً عن الأسماء المشهورة هذه، ماذا عن الجيش المجهول ذاك: الكتاب المجهولون الذين لا نعرفهم حتى الآن.
تأثير كافكا الذي وُلد وترعرع في براغ على أجيال عديدة من كتّاب وقراء في العالم كان جلياً دائماً. كافكا فتح عيوننا على رؤية الحيف الذي يلحق بالإنسان ورعب المؤسسات ووحشية ماكنة النظم التوتاليرية. ليس من الغريب أن يتحول الحديث عن جمال وعظمة أدب كافكا، باعتباره جزءا مهما من الإرث الإنساني، إلى الحديث عن الحرية، ومقاومة الأنظمة الشمولية.
هذا التأثير ربما تمناه كافكا عند كتابته نصوصه، لكنه بالتأكد لم يحلم بأن تأثيره سيصل إلى هذا الحجم. أمر مفهوم، فأي كاتب لا يحلم بأن يصبح مقروءاً من قراء في مكان آخر.
لكن ما لم يفكر به كافكا أبداً في حياته، بأنه سيُقطع عن بعض، سيساء فهمه، أو أقله بأنه سيتحول إلى موضوع لمعركة على الإرث! أو ربما عرف ذلك، ألم يطلب بحرق مخطوطاته بعد موته؟
أية مفارقة أن يصبح هو بالذات، الذي مات وحيداً وفقيراً في غرفة صغيرة في مصح في مدينة كيرلينغ (اليوم خي من مدينة كلوستيرنويبورغ) في النمسا عام 1924، ضحية للسياسة والجشع والاحتيال. كافكا الذي لم يكن متديناً أو داعياً لأيديولوجية ما، سينتهي لاحقاً، بعد أن تشتهر أعماله عالمياً، إلى أيدي طباخي الأيديولوجية، يقطعونه، يمزجونه ويطبخونه في قدورهم حسب حاجتهم. في المنطقة العربية مثلاً، وخاصة تحت ظل تلك الأنظمة التي أطلقت على نفسها: "الديموقراطيات الشعبية"، الحليفة السابقة للتوتاليرية الاشتراكية والوريثة لأفكار "الواقعية الاشتراكية" المنقرضة، تعرض كافكا إلى مفارقة عبثية. فبالذات انتمائه اليهودي الذي ألحق به الحيف في أوروبا المعادية للسامية آنذاك، تحول إلى تهمة شنيعة ضده في البلدان العربية "الثورية" التي تصرخ ليلاً ونهاراً بحربها "ضد الإمبريالية والصهيونية".
من يتذكر الحملة المسعورة ضد كافكا والتي بدأت أولاً في عراق "صدام حسين. في سنوات السبعينات صحونا فجأة على المجلات الثقافية الرسمية، التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة، تخصص سلسلة من الدراسات المتخصصة في الأدب الصهيوني. وفي كل تلك الدراسات كان يبرز اسم كافكا على رأس القائمة. إنها لمفارقة أيضاً أن أحد الذين رفعوا راية الهجوم على كافكا "الصهيوني" هو ليس غير الشاعر العراقي الشيوعي سعدي يوسف (مقالاته في مجلة الأقلام). صهيوني هي رديف لإسرائيل طبعاً، إسرائيل التي نشأت بعد وفاة كافكا بأربعة وعشرين عاماً!
هكذا هو الأمر! البعض يحتاج إلى جملة واحدة أو مقطع ما في نص لكي يثبت "ألا ترون، كم أنا على حق!" عندما قررت محكمة إسرائيلية قبل أيام بأن ينتهي إرث كافكا الأدبي (الذي تحتفظ به صديقة ماكس برود، صديق كافكا وناشر أعماله) إلى المكتبة الوطنية في القدس، أثنى أحد المشرفين في المكتبة على القرار، معللاً ذلك بأن كافكا (الذي لم يزر القدس أو فلسطين في حينه يوماً) ينتمي للقدس! ودليله على ذلك هو الدفتر القديم الذي عرضه أمام الصحفيين، والذي كتب فيه كافكا بخط يده بعض الكلمات العبرية. حسب المشرف الإسرائيلي، كافكا أراد تعلم اللغة العبرية في آخر أيام حياته، لأنع قرر الهجرة للقدس، لكن الموت فقط هو الذي منعه!
في "القضية"، أحد أعمال كافكا الرئيسية، قُدم بطله، جوزيف للمحكمة في قضية لا علاقة له بها. نفس الأمر يحدث لكافكا تقريباً. إنه يُحكم بالانتماء إلى قومية دون أن يُسأل عن ذلك! في بعض المرات هو نمساوي، في مرة أخرى ألماني، مرة صهيوني، في مرة أخرى إسرائيلي، ولأنه وُلد عام 1883 في براغ التي كانت آنذاك تابعة لمملكة النمسا – هنغاريا، فإنه، حالما يحقق الهنغاري الفاشي فيكتور أوربان المملكة الهنغارية التي يدعو إليها، سيصبح كافكا الهنغاري!
لكن هلا يعود كافكا فعلاً لقومية معينة؟ هل من الممكن تصنيفه ببساطة لعشيرة أو نسب؟ لا أظن. لأن كما هي الحال مع كل كبار الأدب العالمي، لا ينتمي كافكا لأحد: باستثناء إنه ينتمي لنفسه!
جميع التعليقات 1
د عباس ديكان درويش
وتبقى كما انت القا رائعا كما عرفتك حين كنا نصطاد الزنابق والفراشات في كلية الاداب