كتبت غير مرة عن ظاهرة "الواشي" في أغانينا الشعبية وقلت إن انتشارها لدينا لا شبيه له في أغاني الشعوب الأخرى. صار ذلك "الواشي" كما البطل الشعبي الأسطوري الذي يكدر حياة المحبين وينكّدها بنقل أخبارهم إلى حيث يجب أن لا تصل. وصار الشعراء، خاصة النساء، يتبارون في ما بينهم ليثبت احدهم للآخر أن "وشاته" أقسى وأدهى وأمر. مع كل ذلك، يظل كل ما قرأته وسمعته من حكايات وأشعار عن "الواشي" يدور في عالم الآداب الشعبية ولا يدخل في دنيا السياسة والحكومة وملحقاتها من أجهزة مخابراتية واستخباراتية.
قبل أيام أثار انتباهي مقال تطرق فيه كاتبه إلى "الوشاة" باعتبارهم سلطة جديدة في عراقنا "الجديد". قرأت المقال وأعجبتني شخصياته، خاصة في مجال طرح أسباب ظهور "الواشي" الجديد، حتى قلت: ستر الله على الواشي القديم. والله يا عمنا الكبير داخل حسن لو عدت اليوم لترحمت على كل وشاتك "الأولين"، ولاستغفرت ربك عن غنائك لبيت تلك العاشقة العراقية التي اضطرها "الوشاة" إلى أن تدعو على حبيبها بالموت:
وانطبك واشي الليل وي واشي الغروب
يسمر عساك تموت وخلص فرد نوب
لقد أضاف العشاق في زمن العم داخل للواشي ألقابا وأسماء عدة منها: العريضي والنمّام والشامت والعاذل، لكنهم لم يصلوا بخيالهم إلى ما توصل له العراقيون من أسماء في هذه الأيام. لكن هل كان يخطر ببال أحد أن "الواشي" سيصبح اسمه "علاّسا" و "حرّاكا" و "قفّاصا" و "صكاّكا"؟
وان كان وشاة زمن أبي كاظم ورفاقه حضيري وناصر حكيم زهور حسين وغيرهم، لا مكان لهم إلا في خيال الشعراء على الأغلب، فوشاة اليوم لهم المنطقة الخضراء المحمية التي رحم ربنا مطربينا الأوائل إذ ودعوا الدنيا قبل أن يرونها.
أهل الخضراء يسمعون ولا يرون. فمن يسكنها لا يرى الناس ولا يعاشرهم ولا يعرف كيف يأكلون أو ينامون أو يحبون. صلتهم بالناس يتحكم بها "الوشاة" من جميع الأصناف. سمعت شخصا يشكو أن احدهم قد "علسه" عند رئيس الوزراء وآخر شكا أنهم قد ":حركوه" عنده. مشكلة الذي لا يعتمد على عينيه كثيرا سيضعف بصره وينشط سمعه. انه مثل الأعمى، الذي بفعل فقدانه نعمة البصر، تتضاعف عنده قوة حاسة السمع. وهكذا يصبح الحاكم أو السياسي، الذي لا يرى الناس ولا يخاطبهم إلا عبر الشاشات، يرى الأشياء بأذنيه لا بعينيه.
وعن العمى و "الواشي" قالت عراقية:
وين الله ابو الحوبات يعملي جودة
يخلي الوشاني اوياه اعمه واكوده
ومهما كانت أفعال وشاة الأمس فإنها لم تصل لسفك الدماء واستعمال الكواتم وهجمان البيوت كما يفعل وشاة اليوم. لقد غنينا كثيرا عن الوشاة السابقين ورقصنا طربا لكلمات مرت على أسمائهم. لكن هل فينا من يغني اليوم عن "الصكّاكة" و "العلاّسة" و "الحرّاكة" ونطرب له؟
لكني أتدارك وأقول من يدري؟ فقد يوجد في الخضراء غناء آخر عن "وشاة" تطرب له آذان من نوع آخر أيضا. وقد ترقص له أكتاف وأرداف لم نتشرف بمعرفتها بعد.
جميع التعليقات 1
صفاء الغضيب
هاشم العقابي لك مني كل التقدير ووافر الاحترام لقلمك الذهبي ادام الله مداده. غاية الاناقة وسهولة الفكرة ووسيلة ايصال الرسالة. كل هذا وجدته في مقالك الراقي. بديع بديع ما كتبت احسنت وجزاك الله على كل حرف كتبته. امتعتنا جداً