تؤكد الحكومة الاتحادية ومجلس النواب والكتل البرلمانية وقادة الميليشيات، المنضبطة و"الوقحة" على السواء، أنّ إقليم كردستان جزء لا يتجزّأ من العراق، ولا تنفي قيادة إقليم كردستان هذا الواقع، كون الإقليم لم يفكّ ارتباطه بالحكومة الاتحادية، لكنّها تقول إنها تريد التفاوض على فكّ الارتباط مع الصيغة الدستورية القائمة مع العراق الاتحادي عبر حوارٍ ممتدّ قد يكون سقفه عامين .
وهي إذ تؤكد على مبدأ الحوار الممتد من دون شروط مسبقة تتعهد بالتزام السياقات الدستورية، والمادة 140 كإطارٍ لمعالجة مصير كركوك والمناطق المتنازع عليها، ولن تفرض الأمر الواقع أو الإلحاق القسري كخيار للحلّ.
ورغم إجراء الاستفتاء، وما خَلصَ إليه، فإن مسؤولاً مقرِراً في الإقليم لم يُشهِر القطيعة أو يعلن العدّ التنازلي لنهاية العلاقة الاتحادية في إطار العراق، بل على العكس يجري التأكيد بوضوح على أنّ كل شيء رهن بالحوار الممتدّ.
في مقابل هذا هناك الجوّ الهيجاني المشحون بالكراهية والإلغاء، وهو جوّ يقترب من أجواء عشيّة إعلان الحرب، الذي خيّم على مجلس النواب والحكومة ومجلس الأمن الوزاري في بغداد، حيث شُرِع باتخاذ قرارات وتدابير وإعلانات تنزع الثقة عن الإقليم، قيادة وشعباً، كما لو أنه ليس " متمرداً" فحسب، بل كيان " منفصل" يتوجّب تجريده من كل حقوقه الدستورية والقانونية. وإلّا كيف يمكن تفسير كل ما اتخذه البرلمان والحكومة والمجلس الوزاري الأمني، إن لم يكن كذلك؟ وهي حزمة إجراءات وقرارات ليست بمجملها مستوفية للشرعية الدستورية، بل بعضها منافٍ لمبادئ الدستور وديباجته التي تؤكد على أنّ نزع الشرعية عن كلّ أو أي جزءٍ من الحقوق المكتسبة للأقاليم والمحافظات يتطلب مطابقتها للحيثيات الدستورية أو إخضاعها لتعديل الدستور نفسه، ومثل هذا التعديل يتطلّب إجراء استفتاء عام لكي يصبح ملزماً في حالة حصوله على موافقة جميع المحافظات، وأي تعديل يسقط إذا قوبل برفض محافظتين متجاورتين!
ومن اللافت أنّ أولئك الذين وجدوا ضالّتهم في ما جرى وكأنهم كانوا بانتظاره، إن لم يفعلوا الكثير طوال سنوات لإيقاد فتيل الفتنة، أوقعوا الجميع في كمائن ثاراتهم المضمرة ضد الشعب الكردي، فاستدرجوا البرلمان لاتخاذ قرارات ارتجالية من دون اعتبار لتكييفها الدستوري، ولم تخلُ القرارات مما صاحبها من دعوات للتعجيل بالتحرك العسكري، وإلا يكون الأوان قد فات ..! وكأنّ ذلك ليس قراراً بالحرب يتطلب سياقاً دستورياً وإجماعاً وطنياً.
ولا يمكن عزل ما يجري اليوم عن قراراتٍ حكومية سابقة، بدا فيها الإقليم كما لو أنه ليس جزءاً من العراق. ويكفي للدلالة على هذا النزوع المختلّ قطع الموازنة عنه واستبدالها باتفاق مقايضة النفط بما يقابله من تحويل مالي!
فإلى ماذا تؤشر كل هذه القرارات والتدابير؟ أهو اعترافٌ بانسلاخ الإقليم منذ الآن، والاعتراف بالأمر الواقع في كلّ ما له علاقة بالمناطق المتنازع عليها وكركوك والحدود والثروات؟ أم إنه إنكارُ لكل دعاوى الإقليم ورسالة قطيعة مع الشعب الكردستاني مفادها " أنْ ليس لكم في الدستور ما يفيد حقوقكم ، وخياركم هو الرضوخ للإلحاق القسري بلا اعتراض أو نقاشٍ أو سندٍ دستوري أو حقوق، سوى ما تقرره صيحات الأحقاد والكراهية والإنكار والتهديدات المبطنة بالتأديب " ! وهذا ليس سوى خيارٍ مُبطّن للجوء الى القوة المفرطة، إن لم ينطوِ صراحة على إعلان الحرب .
وإن لم يكن كذلك فالخيار الوحيد الذي يتطلع إليه كل وطني عراقي منزّه عن الشبهات بالفساد ومقايضة الوطن المبتلى، هو اعتماد الحكمة والعقل وسبيله الحوار المُشبَع بالمسؤولية الوطنية، من دون التخلي عن الثوابت أو القيم الدستورية المُحكِمة، واستنفاد كل ما يتطلبه الحوار الممتد، والالتزام من دون ارتباط بالحوار وموجباته، بالشروع باتخاذ كل مايلزم من تشريعٍ وتدابير لاستكمال مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية، الضمانة الوحيدة لحماية العراق، وإجهاض ما يُبيّت له من فتنةٍ تضع المغامرين ولصوص المال العام وفضلات النظام السابق في واجهة السلطة، وهو ما يعني نهاية العراق وضياع آمال العراقيين.
إنّ السيد العبادي، وهو على رأس السلطة التنفيذية المقررة، مطالبُ بحكم مسؤوليته، أن يتّخذ موقفاً واضحاً من الحملات المسعورة التي تبلغ شأواً من الوقاحة بحيث تُعرِّض بالكرد كقومية، و" تتندر" عليهم، وتنفي من الأساس شرعية وجودهم التاريخي وتتوعدهم بتحويلهم إلى " أثر بعد عين"، إن لم يكن هذا مصيرهم، لولا فتوى المرجع محسن الحكيم إبّان انقلاب البعث الفاشي عام ١٩٦٣ الذي حرّم مقاتلة الكرد، وحلّل قتل الشيوعيين !
ليظلّ البرلمان والحكومة الاتحادية على رفضهما الاستفتاء ونتائجه، لكنهما كيف ستتعاملان مع الإقليم وما فيه، وكيف تنفذان ما اتخذتاه من قرارات اتحادية، وهما ينزعان الشرعية من القيادة السياسية التي اكتسبت دعماً غير مسبوق، على افتراض أنّ الاستفتاء لم يكن على الاستقلال وإنما على شرعية التمثيل..؟!