هل يُصيب الجَمَالُ المرءَ بالهذيان؟ وما الهذيان في الكلام العربيّ
في لسان العرب يقال (جارية مُهْجِرَةٌ) إِذا وُصِفَتْ بالحُسْنِ، وإِنما قيل ذلك لأَن واصفها يخرج من حدّ المقارب الشكل للموصوف إِلى "صفة كأَنه يَهْجُر فيها أَي يَهْذِي"، وهذا ينمّ عن أن الـ (هُجْرَ) يعني الهذيان، من بين معانٍ متعددة، فالهُجَيرة تصغير الهَجْرة، وهي السمينة التامة. وأَهْجَرَتِ الجاريةُ شَبَّتْ شباباً حسناً. والمُهْجِر هو الجيد الجميل من كل شيء، وقيل الفائق الفاضل على غيره؛ قال (لما دَنا من ذاتِ حُسْنٍ مُهْجِر). والهَجِيرُ كالمُهْجِرِ؛ ومنه قول الأَعرابية لمعاوية حين قال لها: هل من غَدَاء؟ فقالت (نعم، خُبْزٌ خَمِير ولَبَنٌ هَجِير وماءٌ نَمِير) أَي فائق فاضل. والهَاجِرُ هو الجَيِّدُ الحَسَنُ من كل شيء. والهُجْرُ أيضاً القبيح من الكلام، وقد أَهْجَرَ في منطقه إِهْجاراً وهُجْراً، وأَهْجَرَ به إِهْجاراً استهزأَ به وقال فيه قولاً قبيحاً [كأنه يهذي ذَمَّاً]. وتكلم بالمَهاجِر أَي بالهُجْر، ورماه بِهاجِرات ومُهْجِرات، وبِمُهَجِّرات أَي فضائح. والهُجْرُ الهَذيان.
وأحسب أننا هنا أقرب لمفهوم الشطح، لأن الهَذَيانُ في لسان العرب هو كلام غير معقول مثل كلام المُبَرْسَم [مَرَضٌ بين الكبد والقلب حسب قدامى العرب] والمَعْتُوه. هَذي يَهْذي هَذْياً وهَذَياناً تكلم بكلام "غير معقول" في مرض أَو غيره، وهَذى إِذا هذَرَ بكلام لا يفهم، وهَذى به ذَكَره في هُذائه، والاسم من ذلك الهُذاء. ورجل هَذَّاءٌ وهَذَّاءَةٌ يَهْذي في كلامه أَو يهْذي بغيره؛ أَنشد ثعلب (هِذْرِيانٌ هَذِرٌ هَذَّاءَةٌ - مُوشِكُ السِّقْطةِ ذُو لُبٍّ نَثِرْ) هَذى في منْطِقه يَهْذي ويَهْذُو.
أما التعبير "جارية مهجرة" أي تصيب واصفها أو عاشقها بالهذيان فإنما موصول بالأيروتيكا، بشكل بالغ الوضوح. ومن هنا يمكن العودة إلى مفهوم الهذيان حسب سيغموند فرويد المربوط عنده باللبيدو. ويعتبره محاولة لـ (لشفاء) من خلال إعادة بناء الواقع الذي وصل إليه الانسحاب الليبيدويّ. وقد ينطوي الهذيان على وضعية تمثيلية représentatif أخرى، كونه يحمل تمثيل الحالة الداخلية للذات (الواصف أو العاشق الهاذي بالجَمَال في حالتنا)، حالة لا تدركها الذات (العاشق الواصف) بشكل مباشر، لكأنه في خضم شعور قياميّ (نهاية العالم) الذي يصير استعارة لحالة الكارثة الداخلية التي ينقلها الهذيان إلى "العالم الخارجيّ". يستعيد فرويد التماثل الكلاسيكيّ، الحاضر منذ عصر النهضة، الذي يوحِّد الحلم بالهذيان. وهنا أيضا مناسبة لوصل (جمال المرأة المُهْجِرَة) بالحلم الخارج عن نطاق الحلم غير المنطقيّ المعتاد إلى نطاق الهلوسة.
لكن (الجارية المُهْجِرَة) بالغة الجمال التي يخرج واصفها من حدّ المقارب الشكل للموصوف إِلى صفة كأَنه يَهْجُر فيها أَي يَهْذِي، إنما يعني أننا في الحقيقة أمام عملية "شطح". لسنا في مقام المفهوم الهذيانيّ (Délire) الفرويديّ تماماً بل إزاء مفهوم الشطح، الخرف (divagation، Delirium).
تراث العشق العربيّ الذي يَصَلُ العشق بالجنون (أشهر ذلك: مجنون ليلى)، ويروى سرديات عن خبل وهلوسة بعض المحبيّن (مصارع العشّاق)، وعشّاق الجمال الخارجين عن الحدّ: كما في قول الخيام:
القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال
والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال (من ترجمة أحمد رامي)، يضع أمام القارئ النبيه، معضلة (الجَمَال) في بعده اللامنطقيّ. الوَلَه الخارج عن الحدّ بالجَمَال، وهو وَلَهٌ جدير وحده بالجَمَال.
الجَمَال الذي يُصيبُ بالهذيان
[post-views]
نشر في: 29 يناير, 2018: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...