TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تلويحة المدى: رَسَبَ الطالب في أعماق النهر

تلويحة المدى: رَسَبَ الطالب في أعماق النهر

نشر في: 3 ديسمبر, 2018: 06:08 م

 شاكر لعيبي

في نهاية الامتحانات الدراسية، ثمة الكثير من الراسبين دائماً، فمن أين جاء مصطلح الرُّسُوب بدلالة الفشل في الاختبار؟
في لسان العرب لا أثر لذلك. ثمة الرُّسُوب عكس الطفو، الرُّسُوبُ الذَّهابُ في الماءِ سُفْلاً. رَسَبَ الشيءُ في الماءِ يَرْسُب رُسُوباً، ورَسُبَ ذهَبَ سُفلاً.
لعلهم اشتقوا في العصور الحديثة فقط هذا المعنى المدرسيّ، فاعتبروا من لا ينجح، ويطفو مع الناجحين، الناجين، كأنه قد رسب في الأعماق، غرق، غرق في الاختبار. وهذه دلالة مجازية تقع في صلب الاستخدامات الشعرية الممكنة للمعجم العربيّ.
في اللسان اشتقوا من الفعل رَسَبَ أشياء أخرى، كقولهم رَسَبَتْ عَيْناه أي غارَتَا. وهذه دلالة على التراجع في المحجر. وفي حديث الحسن يَصِفُ أَهلَ النار (إِذا طَفَتْ بهم النارُ، أَرْسَبَتْهُم الأَغْلالُ) أَي إِذا رَفَعَتْهم وأَظْهَرَتْهُم، حَطَّتْهم الأَغْلالُ بثِقَلِها إِلى أَسْفَلِها. وسَيْفٌ رَسَبٌ ورَسُوبٌ ماضٍ، قاطع، يَغِـيبُ في الضَّريبةِ [الضربة]؛ قال الهذلي (أَبيض كالرَّجْعِ، رَسُوب، إِذا - ما ثاخَ في مُحْتَفَلٍ، يَخْتَلِـي). وكان للرسول سيف يقال له رَسُوبٌ أَي يَمْضِي في الضَّريبة ويَغـيب فيها. ولدينا هنا عرضاً استخدام الضريبة التي تعني بين ما تعني ما ضربته بالسيف. والضريبة المضروب بالسيف، وإنما دخلته الهاء لأنه صار في عداد الأسماء، كالنطيحة والأكيلة. وفي التهذيب أن الضريبة كل شيء ضربته بسيفك من حي أو ميت. وأنشد لجرير:
(وإذا هززت ضريبة قطعتها - فمضيت لا كزماً ولا مبهورا)
وربما سمي السيف نفسه ضريبة. لكنها تتغلغل بدلالة اقتصادية أيضاً، فالضريبة واحدة الضرائب التي تؤخذ في الأرصاد والجزية ونحوها، ومنه ضريبة العبد وهي غلته. وفي حديث الحجام "كم ضريبتك؟" الضريبة ما يؤدي العبد إلى سيده من الخراج المُقرّر عليه، وتجمع على ضرائب. ومنه حديث الإماء اللاتي كان عليهن لمواليهن ضرائب. يقال "كم ضريبة عبدك في كل شهر؟". وهذا من شعريات الفعل ضَرَبَ نفسه كما أوضحنا ذات مرة.
والغريب أن الرَّسُوب (بفتح الراء) هي الكَمَرة، كأَنها ترسب لِـمَغيبها عند الجماعِ. ها هنا بمعنى تغيب عميقاً، وليس ضد الطفو. فالكَمَرة لا تطفو.
أتباع مدرسة فرويد استخدموا مفردة الراسب والترسُّب (الرَّسُوب) في الحقل النفسيّ. يقول أحدهم إن الأنا العليا ليست محض راسب précipité، مترسّب sédimentation، ثفل résidu، لحاجيات الهُوَ ça البدائية (ص215 من: Jean Florence; L'identification dans la théorie freudienne).
متى يا ترى صار الفعل رسَب [التِّلميذُ] يعني أخفق في الامتحان؟ ليس لدينا معجم اشتقاقي تأريخي عربيّ للأسف، لكن يمكن الافتراض أن ذلك جرى في وقت متأخر. فكيف جرى وصل الرسوب بالإخفاق الدراسيّ في حين أنه لا يشير إلى دلالة مثل الإخفاق في أصل استخدامه؟
إن الاستخدامات الشعرية الكامنة في مفردات المعجم (ولا أقول المجازية أو الاستعارية مع أنها جوهر الاستخدام الشعريّ) قد سمحت بذلك لمن اقترح للفعل دلالته المدرسية الحالية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram