د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
يدرك القراء جيداُ بأني معجب بالمعماريين ومحب لنتاجهم الخلاّق، الذي نسمية "عِمَـارَة و عِمْرَانْ". أعرف أنا، ايضاً، ذلك تماماً من خلال كتاباتي الكثيرة عن العمارة والمعماريين، وعبر محاضراتي العديدة التى كنت القيها على مسامع طلابي لسنين (.. لعقود من السنين!)، والتى بها كنت اسعى وراء الرفع من قدر هذا "الجنس" الأبداعي، مكرراً ومعيداً أهمية اولئك المبدعين ومشيداً بقيمة "شغلهم" المهني المجتهد. لكن المعمار "فَالْتَرْ غِرُوبِيُوس" (1883 - 1969) Walter Gropius ، له منزلة خاصة لديّ. اشعر بانه جد قريب مني بعمارته المميزة وبفكره النيّر، والاهم في ولعه في العمارة والمقدرة العالية التى يتمتع بها كونه "معلم" معماري، إضافة الى اجتهاده في قضايا نشر العمارة والترويج لها في اوساط مجتمعية متنوعة، ما يجعلني ان اكون "مريداً" له ومُؤَازِرًا لتوجهاته في هذا الشأن. ويسرني جداً ان اقدمه لكم في هذة الحلقة من "مُخْتَارَات": ايها القراء الاعزاء اقدم لكم "استاذي" و "زميلي" و"صديقي" و"معماري" الاثير: فَالْتَرْ أَدُولْفْ جُورْجْ غِرُوبِيُوسْ!
يقترن اسم "غِرُوبِيُوس" المعمار الالماني/ الامريكي، مع المؤسسة التعليمية ذائعة الصيت مدرسة <الباوهوس> Bauhous، تلك المدرسة الطليعية التى ساهمت بوجودها وبمقرراتها الاكاديمية واساتذتها وبطلابها مساهمة فعالة في تكريس قيم الحداثة المعمارية في المشهد المعماري وفي خطابه ايضاَ، منذ ان تأسست في سنة 1919.
ورغم اننا إرتأينا ان تكون خصوصية حلقة "مُخْتَارَات" متسمة على سرد شديد الاختصار، ومكتفين بتقديم نقاط مضيئة وهامة لدى الشخصية المعمارية المنتقاة. إذ أن مرمى هذة "المختارات"، كما ادرك القارئ الكريم، يكمن في تقديم شخصيات معمارية متنوعة مع التذكير بقيمة منتجهم التصميمي، المضاء (.. و"المفسر" احياناً!) عبر ملخص أقوالهم الشخصية وكتاباتهم الذاتية، بحيث يَجْتَرِح كل ذلك مشهداً بمقدوره ان يحث المتلقي لمزيد من الاستقصاءات المعرفية العميقة عن تلك الشخصية المختارة وأهميتها في تنويع الممارسة المعمارية وتكريس قيمة رؤاها في الخطاب. نقول .. مع هذا، فإننا سنتحدث، ولو بإسهاب بسيط، عن تلك الفكرة النيّرة والمستنيرة والساطعة، التى استطاعت ان تكون لحظة فارقة وهامة جداً في مسار الحداثة المعمارية ونشوئها ، وأعني بها ظهور "مدرسة الباهوس" في المانيا. المدرسة التى اضفت على غِرُوبِيُوس (.. المؤسس لها والمبادر الى نشوئها ووجودها وتنظيمها ومديرها) وعلى أسمه بهاءً ومجداً خاصين وميزته بذلك الاضفاء عن الأخرين!
تعود فكرة "الباوهوس" الى بداية القرن السابق، عندما شعر بعض المهتمين بضرورة تقليص وردم الفجوة بين خريجي المدارس الفنية (الاكاديميات) والتطبيقيين – خريجي المعاهد الفنيةالحرفية ولزوم ايجاد نوع من العلاقة والتعاون بينهما. وعندما رأس "هنري فان دي فيلدي" (1863 – 1957) Henry van de Velde المدرسة الفنية العليا وعين في الوقت ذاته عميداً للمعهد الحرفي للفنون التطبيقية في فايمر Waimer بدا وكأن المهمة التى طالما راودت اولئك المهتمين في دمج المؤسستين التعليمتين في طريقها الى التطبيق. بيد انه لم يتمكن من اجراء اية تغيرات تذكر. عند ذاك اقترح هذا المنصب على غروبيوس المعمار الشاب والحيوي آنذاك الذي قبل العرض وفق شروط أن يمنح صلاحيات واسعة واستقلالية كبيرة في اجراء التعديلات التى يراها ضرورية، بضمنها التعديلات التى تمس القضايا التعليمية والادارية والتنظيمية.
على أن نشوب الحرب وقتذاك منعه من إجراء تلك التغييرات الجذرية المرجوة. لكن غِرُوبِيُوس ما لبث أن سارع في تطبيق إصلاحاته حالما وضعت الحرب أوزارها. قام غِرُوبِيُوس في عام 1919 اولا بدمج المؤسستين التعلميتين الفنية العليا والمعهد الحرفي في مؤسسة واحدة دعيت "دار الدولة للبناء في فايمر" واتخذت لاحقاً اسماً مختصراً هو <الباوهوس> Bauhous . ثم سعى لردم الهوة التى تشكلت تاريخياً بين الفن الخالص والفن التطبيقي، بين العمل اليدوي وعمل الآلة. وفي رأي غِرُوبِيُوس أن المؤسسة التعليمية ينبغي أن تولي اهتماماً كافياً لتأهيل خريجين يتمتعون بثقافة فنية عالية، ويعرفون جيداً المعلومات النظرية والتطبيقية الخاصة بالرسم والتصميم والتكوين، وفي ذات الوقت عليهم أن يكونوا أخصائيين في تقنيات الإنتاج الصناعي المعاصر للمنتوجات الفنية التطبيقية.
في البرنامج التعليمي للباوهوس لم يقتصر التدريس على مساقات الرسم والزيت والحفر والتصميم وتاريخ الفن. وإنما شملت أيضاً دراسة المواد والأدوات وطرق معالجتها. وينكر غِرُوبِيُوس في برنامجه التعليمي وجود أي فرقمبدئي بين أسلوب إنتاج أدوات الفن التطبيقيبالطرق اليديوية أو إنتاجها عن طريق الآلة. إذ كان يعتبر الآلة ما هي إلا أداة متطورة لا يمكمها بأي حال من الاحوال ان تعيق العملية الإبداعية، مشدداً على أن الأسلوب الصناعي للإنتاج يفرز بحد ذاته متطلبات خاصة على المصممين مراعاتها كالدقة والعقلانية في أشكال التصميم المقترحة. بمعنى آخر فإن ثمة أعتبارت خاصة يتعين على المصممين الأخذ بها في العملية الإنتاجية التكنولوجية.
تطلع غِرُوبِيُوس لإشراك أخصائيين مشهورين في العملية التعليمية بالباوهاوس، أخصائيين يؤمنون بالمنطلقات نفسها التى يؤمن بها. حدد غِرُوبِيُوس غايات المؤسسة التعليمية الجديدة بالهدف الأساسي وهو العمل على تحسين ظروف السكن المعاصر بدءاً من عمل الأدوات المنزلية وانتهاءً بتصميم البيت السكني ذاته ومن خلال الترابط التام مع التقنية المتطورة والتقصي عن مواد وتراكيب انشائية جديدة يمكن للمصمم أن يلائم بها المتطلبات المعاصرة مع التقاليد السائدة. والسير قدما نحو أشكال جديدة من التطور والتمدن. كما نادى غِرُوبِيُوس بوجوب الاعتراف بعالم الآلة ,اساليب النقل الميكانيكي وتصميم الأشياء انطلاقاً من غرضها المباشر لا غير. ومن دون رتوش رومانطيقية ، كما ناشد المعمار أن تكون الأشياء المصممة ذات طابع بسيط ومقيسة وتتسم بقدر كبير من اقتصادية المواد والموارد. يعتقد غِرُوبِيُوس ان على المصممين أن يدركوا بشكل عميق اساليب وطرق الإنتاج الآلي المتسلسل المختلفة عن طرائق العمل اليدوي مع ان النموذج الأول ينبغي ان يصنع بواسطة العمل الحرفي. وطبقاً لخصائص الانتاج الآلي الأساسية يتوجب العمل على تكوين مفاهيم للجمال والاصالة ذات معايير جديدة مشبعة بروح الحداثة.
ويظهر من مقولات ِغرُوبِيُوس بان أساس أسلوب الإنتاج الجديد لمواد وأدوات الفن التطبيقي يكمن في الاعتراف بأولوية الملاءمة الوظيفية ولزوم استخدام الوسائل الصناعية المعاصرة من اجل تقليل كلفة أدوات اتدبير المنزلي وأخذ المتطلبات الاجتماعية بعين الاعتبار. وبتبدل الظروف السياسية في منطقة فايمر ، وجدت إدارة الباوهوس تفسها في صراع دائم مع المسؤولين الجدد في البلدية، ما اضطر غِرُوبِيُوس أخيرا الى تقديم استقالته من منصب مدير الباوهاوس سنة 1924، وتضامنهم منهم مع مديرهم قدم بقية الاساتذة في المدرسة استقالاتهم الجماعية. وتم غلق المدرسة في فايمر. على ان السمعة المهنية الكبيرة والشهرة التى نالتها الباوهاوس كؤسسة رائدة، جعلت كثير من المدن بأن تقتراح نقل المدرسة اليها. وقد وافق اخيرا غِرُوبِيُوس على مقترح مدينة "ديساو" Dessau، وباشر بعد ذلك باعداد تصاميم مبنى خاص لها ، والذي تم تنفيذه وافتتاحه سنة 1926.
وعلى الرغم من النجاحات المرموقة والانجازات الكبيرة التى حققتها مدرسة الباو هوس، فان غِرُوبِيُوس لم يكن راضيا عن ما تم تحقيقه، فقدم استقالته من منصب المدير وخلفه عام 1926 "هانس مايير" (1889 -1959) H. Meier الشخصية المعمارية المؤثرة والقريبة من الحركة العمالية. . بيد ان السلطات البلدية في ديساو وتحت وطأة الظروف السياسية القائمة في عموم المانيا آنذاك، أتخذت موقفاً سلبياً من نشاط "مايير" ومارست عليه نوعاً من التضييق، ما أدى في الاخير الى إخراجه من إدارة الباوهاوس، وحاولت تلك السلطات اقناع غِرُوبِيُوس بتسلم إدارة المدرسة مجدداً، إلا انه رفض ذلك مرشحا لمنصب المدير فيها المعمار "لودفيك ميس فان دير روّ" (1886 – 1969) Ludwig Mies van der Rohe أحد أهم الشخصيات المعمارية ذات التوجهات الجديدة. وترأ س "ميس" الادارة من عام 1930، وانتقل بها الى مدينة برلين عام 1932ن إثر استيلاء النازيين على الحكم اولا في مقاطعو سكسونيا، ثم ما لبثت أن اغلقت نهائياً سنة 1933 بامر صريح من السلطات النازية التى استولت وقتذاك على دست الحكم في عموم المانيا.
وكما أشرنا فان اسم "فَالْتَرْ غِرُوبِيُوس" ارتبط بنشوء وشيوع هذة المدرسة الرائدة، واكسبت اسمه حضورا لافتا في المشهد المعماري، نظرا لما حققته الباوهاوس من تأثير عميق على نمو وتطور العمارة الحديثة، ان كان ذلك لجهة النواحي التطبيقية أم لناحية الطروحات النظرية. ويعد نشاط مدرسة الباوهاوس حلقة مهمة ، وفق رأي كثر، من حلقات تكريس وشيوع الاتجاهات الوظيفية في العمارة الحديثة.
ولد "فَالْتَرْ غِرُوبِيُوس" في 18 أيار / مايو 1883، في مدينة برلين / المانيا. وكان اختيار مهنته المستقبلية محددا الى حد كبير ، اذ كان والده مشاركاً في قضايا بناء وجده معماراً. درس العمارة في المدرسة التقنية العليا ببرلين وميونخ من 1903 إلى 1907. تدرب في مكتب "بيتر بهرنس" المعمار الالماني المعروف في برلين، ويلتقى هتاك مع المتدربين بالمكتب ايضاً " ميس فان دير رو" و"لو كوربوزيه". اسس عام 1910 مكتبا استشاريا بالاشتراك مع "أدولف مايير" والاثنان قاما بإعداد تصاميم معمل "فاغوس" Fagus للاحذية. اشترك في الحرب العالمية الاولى منذ اندلاعها سنة 1914 وقاتل لمدة اربع سنوات على الجبهة الغربية واصيب بجروح خطيرة ونجا من الموت بأعجوبة., عين بعد الحرب مديراً للباوهاوس في عام 1919 في فايمر. صمم مباني الباوهاوس في ديساو Dessau (1925 -26). عمل على فكرة تصاميم "المسرح الشامل" (1927)، صمم حابنية حي "سيمينستشتات" السكني في برلين (1929 -30). يهاجر الى انكلترة سنة 1934، بعد تسلم النازيين الحكم في المانيا ويبقى هناك الى 1937، ويعمل مع "ماكسويل فراي" M. Fry. يهاجر الى الولايات المتحدة ويعين استاذا في جامعة هارفارد سنة 1937. يؤسس عام 1946 مجموعة "المعماريين المتضامنيين" <تاك> The Architects Collaborative: TAC . صمم مع تاك مركز الدراسات العليا والاقسام الداخلية (1949 -50)، كما صمم المنى السكني في مجمع معرض "انترباو" في برلين (1957)، وصمم السفارة الامريكية في اثينا/ اليونان (1959 -1961)، وصمم جامعة بغداد/ العراق (1957 -61). صمم مبنى بان امريكان Pan Am في نيويورك (1958 -63). اصدر عدة كتب عن تجربته المعمارية، توفي في 5 تموز 1969 في مدينة بوسطن/ امريكا.
كثيرة ومهمة هي المباني التى صممها "فَالْتَرْ غِرُوبِيُوس"، منذ بداية القرن الى الثلث الثاني منه. انها علامات بارزة في مسار عمارة الحداثة ونماذج تصميمية يمكن التعلم منها ومحاكاتها نظرا للافكار المبدعة التى تكتنزها وتحث الأخرين على اجتراح مثيلاتها. لكننا وبحكم موقعنا الجغرافي سوف نتحدث هنا عن احد تصاميم هذا المعمار المميز وفريقه المعماري الذين "وهبوا" لنا انجازا معماريا لافتا ان كان لجهة الافكار الرائدة التى تمتلكها حلول ذلك المنجز، ام لناحية جرأة مفرداتها التصميمية واضافاتها التكوينية. ونعني بالطبع عمارة وعمران "مجمع جامعة بغداد" (1957 -1961) في الجادرية ببغداد/ العراق. وبباعث الاختصار، فاننا سوف نتحدث عن "مسجد الجامعة" ، المفردة المميزة والاستثناءية في حلها التكويني- الفضائي ضمن مفردات تصميم المجمع ككل.
ففي ظني، ترتقي عمارة "المسجد" لتكون حدثا لافتاُ من الاحداث المعمارية ذات الاهمية العالية في منجز تاريخ العمارة العالمية. اذ ان هيئتها عن قرب تشير، كما كتبت عنها مرة، الى "... هيئة لقبة "مغروسة" في الارض؛ اي عكس، تماما، ما الفته المخيلة والعيون لرؤية مسجد بقبة، قبة مرتفعة كثيرا عن مستوى سطح الارض، ودائمأ في الاعلى! . وربما كان " تغيير " تراتبية عناصر المسجد ، واماكن توقيعها، خلافا ً لمنظومة التسلسل الحيّزي للمساجد المألوفة، هو الذي يرفع من الصيغة المرئية لمبنى مسجد الجامعة، لتكون عمارته حدثا تصميما ً على جانب كبير من الابداع والتجديد. ولئن اقتنع المعمار بصوابية الفكرة المفترضة لمسجده، فانه يسارع لتحقيقها عبر اقتراح قبة خرسانية ضخمة ، يحدد دوران العقد المدبب فيها هيئتها الخارجية ، ... وهذة القبة الخرسانية الضخمة تستند على ثلاث ركائز فقط ، منحت المصمم امكانية عمل ثلاثة اقواس فسيحة اسفلها، وظفت بكفاءة لجهة فعالية الدخول الى حيّز المسجد؛ الحيّز الذي يظل متسما بفيض من الشفافية والخفة غير المتوقعتين. ومما يسهم في تكريس تلك السمات في التكوين المقترح، قرار وجود الاحواض المائية الواسعة التى "تنبت" فيها ركائز المسجد الثلاث، كما ان سطوحها المرآتية تقوم بعكس جانب من هيئة المسجد الخارجية وصورته الداخلية معاً. ...ويظل قرار المعمار غير المسبوق في "انزال" قبة المسجد نحو الارض، لتؤشر بمحيطها الدائري مساحة حرم المسجد وقاعة الصلاة الرئيسية فيه ،... يظل هذا القرار من اكثر القرارات التصميمية جرأة، واهمها تجديدا".
ادناه بعض اقوال "فَالْتَرْ غِرُوبِيُوس" مستلة من كتابه الشهير "نطاق العمارة الشاملة" Scope of total architecture، وكذلك من اصدارات عديدة نشرها في مقالات ودراسات عن العمارة، اخترتها وترجمتها من اللغتين الروسية والانكليزية.
- " الفن ليس مقرراً علميًا يمكن دراسته خطوة وراء خطوة من خلال الكتب".
- " لا جدوى من محاولة إعادة إنتاج "أجواء" فترة معينة. يتعين خلق المباني الجديدة من جديد، وليس نسخ المباني القديمة. إن عصور العمارة العظيمة في الماضي لم تقلد العصور التي سبقتها".
- " الإبداع وحب الجمال شرطان أساسيان للسعادة. والزمن الذي لا يعترف بهذه الحقيقة التي لا تقبل الجدل، لن يحصل على تجسيد بصري واضح: صورته ستكون غير واضحة، وإبداعاته لن تسعد أحداً".
- " دعونا، أولاً، نتوقف عن الجدل حول الأساليب؛ يتعين على كل معمار أن يدافع عن غايات مشروعه".
- " إن العمارة، كما يقولون، هي المرآة الحقيقية للحياة وللعلاقات الاجتماعية في أي زمان".
- " اتوق أن أعلم ليس عقائد جاهزة، وإنما أعلم التعرف والتقصي لايجاد مواقف تجاه المشاكل".
- "...أعتبر التخطيط الجيد بمثابة علم وفن. فباعتباره علمًا، فهو يحلل العلاقات الإنسانية، وباعتباره فنًا، فهو يوحد النشاط الإنساني في تركيبة ثقافية."
- " لم يعد من الممكن الخلط بين الفن باعتباره إبداعًا وتاريخ الفن. إن واجب الفنان هو "إنشاء منظومة جديدة"، وواجب المؤرخ هو إعادة اكتشاف وتفسير أنظمة الماضي".
وفي مقال نشره ِغرُوبِيُوس في المجلة الفرنسية المعروفه "العمارة الحديثة" L’ architecture d’ aujourd’hui, 1964. No 113 -114، وقد عنونه بـ "التقاليد والاستمرارية في العمارة"، كتب ما يلي:
<.. إن كل عصر يخلق حتماً أشكالاً وقيماً جديدة به، بيد انه ينزع الى تدميرها في الوقت عينه. تمر بعض المباني وحتى المدن بأكملها بدورة من الميلاد والحياة والموت، تمامًا مثل الكائنات الحية، وداخل هذه الدورة تتشكل معاييرنا ومبادئنا الجمالية التى تغدو بمثابة عوامل ثابتة بمقدورها ان توجه قراراتنا.
نحن محرومون من فرص تقييم عصرنا بشكل نقدي من وجهة نظر التاريخ. وكثيرا ما يُنظر إلى المحاولة الجريئة لإنشاء مدن جديدة على الأراضي الشاغرة على أنها محاولة مغرورة لتعطيل التطور الطبيعي. لقد حجبت الانتقادات القاسية والمبكرة المعنى الحقيقي لهذه المشاريع. ومن الواضح تمامًا أنه في المراحل الأولى من بناء مدينة جديدة، لن يكون من الممكن بناء سوى هيكلها العظمي، والذي سيتم تغطيته لاحقًا بأنسجة حية، مضفية على المعنى الثقافي لهذا النسيج طابعه الخاص.
إن الوحدة والروابط العاطفية لمثل هذه المدينة لا تتشكل فور إنشائها، بل على مدى فترة طويلة من الزمن وبعد تلبية كافة الاحتياجات الأساسية. ومهما كانت أوجه القصور في مثل هذه المدن، مثل "تشانديغار" أو " برازيليا"، فإن حقيقة وجودها هي ما يهم، وينبغي الحكم على هذه الحقيقة على أساس مزاياها. يجب على شخص ما أن يأخذ زمام المبادرة، ويجب أن يعطي الحياة لبدايات جديدة ويثق في الأجيال القادمة لمواصلة العمل الذي بدأ".
* استفدنا في كتابة هذة الحلقة، من كتابنا <مئة عام من عمارة الحداثة> الصادر في 2009 (دمشق).