اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > النزعة "الفتيشية" بشأن قصيدة النثر

النزعة "الفتيشية" بشأن قصيدة النثر

نشر في: 15 مارس, 2013: 09:01 م

لدينا إحساس، مقرون بالشواهد، أن الصخب الكلاميّ الذي كنا نشهده منذ خمسة عشر عاماً بشان الشعر، بدأ يهدأ الآن. لقد ابتذل قليلاً العمل الشعريّ المعقّد، الذاتيّ، والوجوديّ، عبر تنظير ذي بُعد واحد وصِيغ جاهزة. شهدنا اعتقاداً عاماً، في أوساط الشعراء الجدد، بل في مجمل الكتابات النقدية والصحفية، أن "قصيدة النثر" هي الشعر الوحيد الجدير بالاعتبار، لأنه تمثيل لعصر موسوم بالحكائية والرفع من شأن اليوميّ والمبتذل والعاديّ، ولأنه ضدّ التقعُّر والبلاغة والصورة الشعرية المتوهَّجة ذات الوجوه الغامضة المركّبة.

لكننا قبل أن نتلمَّس توطـّن هذه الاعتبارات رأينا تقعيدا ثابتاً لخصائص جنس قصيدة النثر، يتلخص بثلاثة أو أربعة مفاهيم لا سواها.  من نتائج هذا الصخب، وذاك الإيمان شبه الدينيّ بالسمات الفريدة لقصيدة النثر وقدراتها الخاصة ومواكبتها حصرياً للحياة المعاصرة، صدور مئات المجاميع الشعرية، المنشورة في الغالب على حساب مؤلفيها، المكتوبة وفق نوع من الوَهْم الضارب عميقاً.

سيكون من نافلة القول إن قصيدة النثر جنس جدير بالحضور، وأنه قد يستجيب، بعمق، للحرية الداخلية اللازمة للقول الشعريّ، لكن ليس بتنصيبه جنساً وحيداً مطلقاً، وإلغاء ما سواه من ضروب الكتابة الشعرية المعاصرة التي ما زالت تثبت فاعليتها الكبيرة كل يوم.

لقد صار هذا التنصيب في لحظة من اللحظات في الثقافة العربية، نوعاً من الفتيشية Fétichisme التي من الصعب تقديم المعنى الدقيق لها عبر مردافات مثل الفألية أو التصنيمية، فالمفردة مشتقة بالأصل الأول، من "المُصطَنع" و"السحريّ" وأطلقها البرتغاليون على الحاجيات الطقوسية لسكان أفريقيا. امتد المصطلح في القرن الثامن عشر إلى الأنثروبولوجيا والفلسفة، ليمُسّ مسألة الإيمان الروحيّ والحاجيات المتعلقة بالدين (منبر، شبّاك، صليب، الخ) المرفوعة إلى درجة علاقة فألية سحرية، لكنه يعني اليوم العلاقة الشعورية الطاغية بحاجة مادية فريدة أو مركّبة، رمزية نمنحها فاعلية عليا إلى درجة تصنيمها إلى مستوى مهووس وشبه مرضيّ، تستوي بذلك الأشياء المستخدمة في الحقل الاجتماعيّ أو النطاق الجنسيّ الحميميّ.

في أوساط ثقافية كثيرة، سادت هذه النزعة الفتيشية ووسمت التعاطي مع قصيدة النثر العربية، فقد اتخذت العلاقة بها طابعاً طقوسياً، رمزياً، بصفتها تعويذة ناجعة ضد العودة إلى الماضي، وواقية من شرور المعاني والهواجس الأدبية المتخلفة، واعتبرت فاعلية تصنيمية، لا يحوز المساس بها، إلى درجة ليس من الصعب وصفها بالهوس الفتيشيّ بحاجة من الحاجيات، الدينية أو الجنسية، مع أخذ الفوارق بالحسبان.

النزعة الفتيشية هي عموماً علاقة تعويضية بمعنى ما، فإننا نتشبث بقطعة حديد في ضريح ونقيم معها علاقة لمسيّة أو شميّة بدلاً من تبجيل الراقد في الضريح، وإننا نقيم علاقة لمسيّة أو شميّة بقطة من ثياب العشيقة إلى درجة الهوس بالقماش بدلاً من الكينونة العميقة للمعشوقة وننسى حتى البعد الإيروتيكي العميق مع جسدها.

في الحقل الشعريّ، تصير العلاقة مع قصيدة النثر تشبثاً بتفصيل محدّد ثابت، ننسى معه الكينونة العميقة للشعر، واستعصاءه على الاختصار، والتنوّع اللانهائي الممكن لأساليبه، ونعوّض عن خلل السياق الثقافيّ والمعرفيّ المعقد الذي يخرج الشعر عادة منه، بالشكل الشعريّ الذي يبدو الأسهل من بين جميع ضروب الكتابة الأخرى. نقول "يبدو" ونعني قصيدة النثر المكتوبة في شروط سياقية يمكن التذمُّر منها أو بعضها في السنوات الأخيرة.

تكمن المشكلة في السياق الذي تشتغل به الحركة الشعرية الحالية، وليس في جميع منجزاتها، سواءً تعلق الأمر بقصيدة النثر أو بسواها.

نضع ما نكتبه هنا في إطار الدفاع عن قصيدة النثر، بعيداً عن كل نزعة من شأنها تعطيل الأفق العريض للكتابة الشعرية، أو تقعيدها بقوالب جاهزة، أو تحويلها إلى وثن معبود، أو إلى "فتيش fétiche".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram