لا أظن أن مثقفاً صاحي الضمير يمكن أن يقف على الضد من "ثورات الربيع" العربي، لا أدونيس ولا سعدي يوسف على سبيل المثال. بعض المثقفين العرب كان يتمسّك بالأحرى بتحليلٍ للمعطيات العامة يقود إلى الريبة من بعض ما يجري، خاصة مع تدخّل العناصر الخارجية وارتفاع رايات الإسلام السياسيّ، السلفيّ والدمويّ التي أرادت منذ البدء حرف المسار النبيل المُطالِب بالحرية والكرامة والعدل. هذا المسار لم يَصْدر عن تأمّل عميق بالمعطيات فقط، بل أيضاً عن شحناتٍ من الغضب والتوتر المكبوتين طويلاً. عدا المثالين التونسيّ والمصريّ اللذين خرجا من رحم الشارع، بطهارةٍ ما، كيف تريد لهذا البعض من المثقفين أن يؤيد تدخلات المال والميديا والسلاح، القادمة جهاراً من "الخارج"؟. البعض وقف على الضد من تزوير وحرف مسار "الربيع" (وهو ما ثبت صدقه وها نحن نرى نتائجه) أو ارتاب في لحظة ما (وأنا من بين المرتابين) من دوافع بعض الأطراف الرجعية (إذا كان للكلمة من معنى بعد) في تأييدها لمفهوم "الثورة" التي هي النقيض الكامل لمفاهيم القبيلة والتوارث السلاليّ للسلطة ولجم الحريات بقوة رأس المال. عندما أعلنتُ ارتيابي ذات مرة من النكهة الطائفية في المسار السوريّ الذي أيّدتُ انتفاضته دون تحفظ، و ما أزال أؤيد مطالبه الجوهرية، جوبهت بتعليقات ساخرة مريرة من أصدقاء أعزاء لي، من بينهم نوري الجراح الذي أسامحه اليوم رغم ذلك، لأني أدرك عمق المرارة التي يشعر بها المواطن السوريّ إزاء وحش السلطة طيلة أربعة عقود من القمع. ما زلتُ مرتاباً من الطائفية في سوريا وقتل البشر العشوائيّ في العراق وشراسة الدين السياسيّ في مصر والعراق وليبيا وتونس، قدر ارتيابي من الحكم والحاكم المستبدّ المستند إلى سطوة الدين أو القومانية العربية. هذا الموقف ثنائيّ الأقطاب لا يبدو مفهوماً دائماً، بل يبدو متناقضاً.
إذا كان صحيحاً أن المثقف ليس نبياً، لكنه يستشرف الآتي، فعلينا تذكير أنفسنا بضرورة الخروج باستنتاجات دقيقة من الوقائع. في شهر آذار- مارس الماضي ثمة مقالتان تستوقفان المرء: عباس بيضون في السفير (مصر الثورة المغدورة) وخليل النعيمي في القدس العربي (حلم الثورة)، وكلاهما صديقان عزيزان ومُبْدِعان في حقليهما. تمنيتُ في تعليق لي على الفيس بوك أن لا يقول بيضون عن سوريا غداً ما يقوله اليوم عن مصر: "ما يحدث الآن أن الثورة في خطر، الإخوان المسلمون يريدون أن يجعلوا الدولة ومؤسساتها وعسكريتها نهباً لهم، الإخوان المسلمون يريدون إرساء حكم عقائديّ وقد باشروا ذلك من اللحظة الأولى..". ولا أتمنى من أحدٍ، كما يفعل النعيمي، أن يقدِّم مديحاً تجريدياً مطلقاً للثورة على نمط قوله: "للثورة، اليوم، مهمة واحدة: إزالة الطغيان الجاثم على نفوسنا، حتى ولو جاءت بطغيان جديد. وكلمة الـجديد هذه، ليست عبثاً، ولا هي مخيفة. لأنها قد تحدث، فعلاً. ولأننا نكون قد تعلَّمنا مقاومة الطغيان. وتدرَّبنا على إزاحة الطُغاة، وبالخصوص الجُدُد منهم". هكذا.
مهمة المثقف أيضاً هي الاستشراف ومعرفة ما قد يحدث تقريباً، وفق المعطيات. بعض المعطيات لا تبشِّر. النظام السوري دمويّ، و"مشعل حرائق" كما يقول صبحي حديدي، لكن ما يحدث باسم الانتفاضة السورية صار حرباً أهلية، تسعى الجهات الإقليمية عبرها إلى تحطيم سوريا كلها وعينها على مكان آخر، بينما جزء مهمّ من العناصر الفاعلة على الأرض في سوريا أشد خطورة بكثير من غيرهم في مصر.
يصمت بعض المثقفين العرب أو لا يؤيد الواقع الحالي لثورات الربيع العربيّ، لأنه يخشى السقوط في الانتقائية التلفيقية: هنا جيد، هناك سيء. هذه الانتقائية ليست من الأخلاقية الرفيعة بشيء، ولا من بداهات الثقافة.
جميع التعليقات 1
قارئه
مالنا وثوراتهم الخريفية العابسة أليس الربيع الثائر هبت نسائمه من فردوسنا العراقي ابان (91)؟، لنتمسك بحقائقنا ونترك لهم زيف ما يدّعون ، تقبّلوا خالص تقديرنا ، مثقفنا المبدع .