ننطلقُ من تجارب ملموسة: في ظروف العمل الثقافي العربيّ، يقيم الناشر الاعتبارَ الوحيد لشروطه وظروفه واشتراطاته، أمام كتابكَ مهما كانت قيمته. عملكَ وشروطكَ ومواقيتكَ لا وزن لها إزاء مواقيت الناشر، حتى الموغلة في فرديتها. يمكن أن يؤجلكَ حدّ أن يَفقد كتابكَ معناه وهو يخرج في موعد غير ملائم، ناشزٍ. إنها علاقة من دون أصولٍ وأعرافٍ ثقافيةٍ راسخةٍ، وتبدو، بكل جلاء، علاقة بين طرف مُهَيْمِنٍ وطرف مُهَيْمَنٍ عليه، بين مستَلِبٍ ومسلوب، حتى لو ربطتك بهذا الناشر أواصر الصداقة العميقة.
اليوم ثمة أسلوبان للنشر: إما تنشر على حسابك الشخصيّ، وهو أسلوب شَرَّعَ له نمطان من المؤلفين: قادمون من الدول النفطية الغنية الذين أدركوا أن قدراتهم المالية ذات طاقات سحرية، وأنها مؤثرة حتى في صناعة المجد الشخصيّ صناعةً محكمة، بموهبة ومن دون موهبة. لقد ذهبوا بعيداً في استثمار المال الفائض القادم في حساباتهم دون جهد كبير، إلى درجة دفع كل الأموال المطلوبة ليس فقط لنشر أعمالهم وترجمتها بل طبعها في اللغات الأجنبية. لقد استقبل الناشر ـ التاجر العربيّ في كل مكان من العالم العربي، وخاصة في لبنان، هذا النمط من المؤلفين بذراعين مفتوحتين، غير آبه بالنتائج على المستوى الإبداعي ولا مُدْرك للخلاصة الثقافية، الأخلاقية والتاريخية التي تطلع من تنافسٍ شريفٍ حرٍّ على أساسٍ (آخر). لقد فهم المؤلف المذكور أن قدرات رأسماله لا حدود لها حتى في شراء الذمم والأصوات ومنابر الميديا والإعلاميين وحتى بعض المفكرين العرب.
النمط الثاني هو المؤلف الذي يطبع على حسابه، مؤمناً أن موهبته التحليلية المتفرّدة تتجاوز القدرات العقلية للناشرين على فهمها، وأنه يتجاوز مافيا العلاقات التجارية والشخصية، وأن تجربته الإبداعية من الاختلاف والقوة بمكان كبير بحيث أنها تُمْنع من الدخول في منافسةٍ مع التجارب الأخرى المكرّسة السائدة. رأينا ذلك بشكل متواتر في نشر الشعر خاصة، وقيام دور نشر مهمتها الوحيدة نشر الدواوين الشعرية على حساب مؤلفيها. إنها تنشر في الحقيقة، ما تتوفر فيه الحدود الدنيا المقبولة جوار النصوص الرصينة، المدفوعة كلها سلفاً. هذه الطريقة تشكل مَفْسَدة للشعر العربيّ من حيث أنها تخلط الأوراق بين الغث والسمين، في الوقت الذي تزعم فيه تقديم الجميع بطريقة عادلة، بينما هي تقوم بجني الأرباح في المقام الأول من شعراء شبّان متوقدين طموحين.
ثمة نمط ثالث أكثر دهاءً، يتوسّط الاثنين: النشر، بعقدٍ كتابيٍّ، على حساب ناشر معروف، من دون أيّ مكافأة نقدية مع الزعم أنها آتية لاحقاً لا ريب، عبر نسبة العشرة بالمئة من المبيعات. هذا الأمر يُؤجِّل ما لا يتوجب تأجيله، كما أن التحقق من نسِب المبيعات صعب ويمكن المراوغة بشأنه، بينما تدوير المكافأة وتحويلها إلى عدد محدّد من نسخ الكتاب الممنوحة إلى المؤلف في حالات أخرى، دون عقد كتابيّ، فتبدو إجحافاً وتلاعباً قانونياً، إذا ما استلمها المؤلف فعلياً.
نتكلم دائماً عن مؤلفات لها سوق أو بعض السوق، بسبب موضوعاتها أو أهميتها الآنية أو بسبب أصوات مؤلفيها التي أثبتت جدارة إبداعية عبر اختبارات متكرّرة.
الحل الذي يمكن أن يتجاوز ذلك الألم كله، قد يقع في عدة مقترحات: شراء حقوق التأليف لقاء مبالغ واضحة، مشرّع لها قانونياً، وفي آجال محدّدة، اعتماد مؤسسات رسمية (وزارات الثقافة مثلاً) وغير رسمية (منظمات الثقافة، الجوائز الإبداعية.. الخ) بصفتها الناشر المعتمد الحصريّ، إقامة الدعاوى القانونية على الناشرين المجحفين، عبر تكتلات ثقافية إعلامية وصحفية يتوجب إرساء قواعدها منذ الآن، أو الاعتماد على الذات عبر تجاهل النشر الورقيّ كلياً والركون إلى النشر الإلكترونيّ، وإذا ما أراد البعض، على طريقة غادة السمان أو نزار قباني، تأسيس مشروع نشر باسمه الشخصيّ، فلِمَ لا. لا يبدو الحل الأخير لي غريباً أو متطرفاً أو معاندا أو انفعالياً إلا بقدر غرابة وتطرّف ومعاندة (بعض) الناشرين العرب.
شروط الناشر العربيّ
[post-views]
نشر في: 17 مايو, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...