يذهب المعماري التونسيّ طارق بن ميلاد وبعض مواطنيه مثل العجمي ميميتا، إلى ميراث العمارة الإسلامية الأندلسية وامتداداتها المحلية، ويُدْرِجها في بناء حديث، أنيق، سياحيّ أحياناً.
غالبية المعماريين التونسيين المشتغلين على الموضوع نفسه، يبدون وكأنهم يعفون أنفسهم عن المعالجة المتأملة لإشكالية الحداثة المعمارية بعلاقتها مع فنون الإسلام، برغم أن الكثير من عناصر أعمالهم تنهل صُراحاً من تلك الفنون. ليس لأن العمارة الإسلامية لا تعنيهم، وليس لأنهم غير قادرين على تقديم بحوث جمالية شخصية، ولكن لأن سوق العمل قد فرضت شروطها على أعمالهم. هذه الشروط تحكم قطاعات تشكيلية أخرى بالثقل نفسه. الأمر ملحوظ في أنشطة العمارة في العالم العربيّ كله مع إفراط في البلاد التونسية التي تدير نفسها بنفسها تقريباً في جميع القطاعات.
حضور سمات العمارة الأندلسية والمغاربية التقليدية في أعمال بن عمار واضحة وصريحة. سنأخذ مثالين: إقامة بن يدر (1987) وفندق المُعِزّ (1988).
من الناحية الجمالية، تمتاز إقامة بن يدر بمظهرها الخارجيّ المتقشف الذي يُذكِّرنا بالعمائر الدينية المتواضعة في المغرب العربيّ والأندلس: جدران طويلة بيضاء ناصعة، شبابيك تقليدية مشبَّكة بالحديد، نوافذ صغيرة قليلة تستعيد نوافذ المدينة العتيقة في المغرب والمشرق، وأبواب مغاربية تقليدية مزخرفة، وقبّة وحيدة هرمية تعلو البناء تشابه القبب المغربية –الأندلسية والإسبانية.
هذا المرأى الخارجيّ يحيلنا إلى المشهد اللونيّ الخارجيّ لبيوت مدينة سيدي بوسعيد وغيرها التي تقوم على إعلان لونين أساسيين: الأبيض لمجمل سطوح البناء الخارجية، والأزرق أو الأخضر المزرّق للعناصر الصغيرة على السطح، الشبابيك، الأبواب، الأفاريز إذا وجدتْ، والمشربيات أيضاً. من داخل جدران إقامة بن يدر، أي من باحته يبدو منظر البناء متواضعاً أيضاً وبسيطاً.
في أروقة بن يدر الداخلية، نلاحظ أن مبدأ الزينة مستلهم من المنزل التونسيّ التقليديّ: تزيين الجدران بالزليج (الكاشانيّ) مَحليّ الصنع، ذي النقوش التي تزاوج بين القوالب الهندسية المغاربية (patterns) والأوربية المتأخرة. أما تزيين السقوف فيقوم على التقاليد الشعبية الهجينة أو الرفيعة التي يمكن رؤية ما يماثلها في قصور البايات أو بيوت أغنياء قصبة مدينة تونس. ثمة في بن يدر أقواس عربية إسلامية، وعقود مقبَّبة وأعمدة دون هويات أسلوبية واضحة. المبدأ نفسه يسري على صالونات الإقامة والاستقبال والغرف الداخلية والحمّامات وبلاط الأرضيات. وكلها تنتصب لكي تمنح انطباعاً بعمارةٍ تُلهمها العناصر الإسلامية والشعبية كليهما.
إن استعادة إرث الفن الإسلاميّ تقوم هنا على الاستنساخ الصريح والجماليات المألوفة في المقام الرئيسيّ. لا نلحظ صياغة أو إعادة صياغة، لأيٍّ من العناصر القديمة. إنها لا تُسْتلهم قدر ما تُستعاد.
على صعيد آخر، تستدعي زخارف بن يدر ذكريات رسّام مثل محمد راسم الجزائري (1896 - 1975)، وتظلّ في الإطار المفهوميّ عينه للفن الإسلاميّ كما فهمه الجزائريّ. لعل هذا الرسّام أقرب للتقاليد المنمنماتية المتأخرة، الفارسية والتركية التي تستخدم النزعة الهندسية والألوان غير المخلوطة المُسطَّحة. المنظور و(الواقعية) الجامدة في أعمال الجزائري أضفيا على أعماله "طابعا هجيناً" موصولاً بالأحرى بالمنمنمات المغولية التي قامت بالأمر نفسه، فلم تعد تنتمي إلى تقاليد المنمنمات الإسلامية ولا إلى صرامة "الواقعية" التي خرجتْ من رحم عصر النهضة، وما تلاه. أن خلفيات منمنمات راسم وزخارف جدرانها تبدو تقليديا للمنمنمات القديمة: أعمدة وأقواس العمارة الأندلسية- المغاربية، موضوعة ضمن تقسيم صارم و(سيمترية) لم تكن تظهر في الأعمال الكلاسيكية.
تستعيد الزخارف، حرفياً، تزيين الحيطان بالزليج الشائع في المغرب العربي. وفي إحدى منمنمات الجزائريّ (الراقصة والعازفان خلفها) ثمة الزليج الأزرق نفسه وبالنقشات ذاتها الذي يظهر في أحد حمّامات إقامة بن يدر لطارق بن ميلاد.
هذا التماثُل ليس محض مصادفة طارئة، لأنه يدلّ على التغلغل الخفيّ لفن المنمنمات في النسخة المعمارية التونسية، ويشكل بعض مصادرها (المحلية) و(التحدارية) و(التراثية)، كما يُقال في العراق.
عن فن العمارة وفن المنمنمات
[post-views]
نشر في: 16 أغسطس, 2013: 10:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...