بدا مشرع قانون الاحزاب مرتبكا ارتباكاً بيّنا في طريقة تعاطيه مع تأسيس الاحزاب على الاسس الاثنية والطائفية. وقد يعزى ذلك الى عدم فهم وظيفة الحزب، كوحدة سياسية ذات بعد وطني، ووظيفة منظمات المجتمع المدني، الجمعيات بحسب قانون 1960، التي تتمتع بصفة محلية تتماهى مع الطابع الهوياتي الذي تنشط في حيزه الضيق والمحدود.
بالامكان ملاحظة المعالجة المرتبكة و"الضبابية" لهذه الاشكالية المعقدة، في المواد التي تناولت ذلك: (5/ثانيا)، و (11/ثانيا)، و (46/ثانيا). ففيما تحظر المادة الاولى تأسيس الاحزاب "على أساس العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التعصب الطائفي أو العرقي أو القومي"، تعود المادة الثانية لتحديد معايير تأسيس الاحزاب الاثنية مشيرا بالصراحة الى (الاقليات). كما وتنص المادة (11 ثانيا/ ب) على ما يلي: تقدم الاحزاب التي تمثل المكونات الاثنية (الاقليات) قائمة بـ(500) عضو يرفقها مؤسس الحزب او التنظيم السياسي.
ومن المعلوم فان الاقليات في العراق ذات هويات اثنية او طائفية او دينية بالضرورة وحكم الواقع، وهنا نعود للنقطة الاولى، التي وردت في المادة (5/ثانيا)، وهي تشكيل الاحزاب على اسس اثنية وطائفية. ومن هذه النقطة بالذات نكتشف ارتباك المشرع وعدم تمييزه بين ضمان حق التمثيل لما اسماهم بـ"الاقليات"، وهو وصف خادش من الناحية الاخلاقية والوطنية، وبين تكريس الانقسام الاثنو/طائفي على المستوى السياسي، بتشريعه قانونا يقع في فخ التناقض الشكلي، وهو بذلك يستدعي جدلا مستقبليا حول التفسير الصحيح لهاتين المادتين، وايهما سيكون حاكماً على الآخر؟!
واذا ما حاولنا غض الطرف عن مرور المشرع العابر على مفهوم "الاقليات"، وعدم تقديمه تفسيرا واضحا لذلك، فان القانون يبلغ ذروة تناقضه في المادة (46 ثانياً)، التي تنص على ما يلي: "يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (10) عشر سنوات كل من أنشأ أو نظم أو أدار أو انتمى أو مول حزب او تنظيماً سياسياً غير مرخص يحمل فكراً تكفيرياً أو إرهابياً أو تطهيراً طائفياً أو عرقياً او يحرض أو يروج له أو يبرر له".
لاحظوا فالقانون يحظر تشكيل الاحزاب على اساس اثنو/ طائفي، لكنه يعود ليشرعن تشكيل التنظيمات السياسية على نفس الاسس المحظورة، ثم يعود لاحقا ليحدد عقوبة لتنظيمات غير رسمية يمنحها تسمية "الاحزاب". وهنا فان المشرع يتقمص شخصية الباحث والمعلق السياسي، وليس رجل الدولة، عندما يتعامل مع تنظيمات يفترض انها خارجة على القانون ومهددة للامن والسلم المجتمعي، ويقوم بمنحها صفة احزاب او تنظيمات "غير مرخصة". وهذه لوحدها مفارقة اخرى!
كان من المفترض على مشرع قانون الاحزاب التشدد بوضع معايير تشكيل التنظيمات السياسية بما يعزز ما كان يسمى "وحدة وطنية" او ما بات يطلق عليها حاليا بالانقسامات المكوناتية. لقد غابت الرؤية الوطنية عن بنود القانون الذي تعامل مع الشعب على اساس مكوناتي وفقاً لما تم تكريسه بعد 2003. فبدلا من ان يشكل التشريع علاجاً لجروح الذات الوطنية، لكنه رضخ لضغوطات الواقع المشوّه بشكل مؤسف!
في هذا السياق يبدو ان مشرّع قانون الاحزاب قام بـ"قفزة بهلوانية" وهو يتجاوز بشكل مقصود لشبكة العلاقات المعقدة التي تحكم اغلب الاحزاب والتنظيمات العراقية الامر الذي يهدد بافراغ القانون من مضمونه لصعوبة تطبيقه اصلا. فهو مثلا لا ينص على حل الاحزاب بل يكتفي في (المادة 32) وتفرعاتها، بانه "يجوز حل الحزب او التنظيم السياسي بقرار من محكمة الموضوع"، ويسرد عدة اسباب لهذا الجواز الخجول بما يلي:
أ- فقدان شرط من شروط التأسيس المنصوص عليها في المادتين (7) و (8) من هذا القانون. ب - قيامه بأي نشاط يخالف الدستور.
ج - قيامه بنشاط ذي طابع عسكري أو شبه عسكري. د- استخدام العنف في ممارسة نشاطه السياسي. هـ- امتلاك أو حيازة أو خزن الأسلحة الحربية أو النارية أو المواد القابلة للانفجار أو المفرقعة في مقره الرئيس أو احد مقار فروعه أو أي محل آخر خلافا للقانون.
و- قيامه بأي نشاط يهدد أمن الدولة، أو وحدة أراضيها، أو سيادتها، أو استقلالها.
هذه النقطة تنقلنا الى سؤال اكثر اثارة، وهو يتعلق بمقاصد القانون وغاياته، هل أنه جاء لتكييف وشرعنة كيانات قائمة معروفة بمرجعياتها الفكرية والعقائدية، ام انه شرّع لتنظيم الحياة السياسية على اسس مختلفة؟!