حيدر المحسن
في الحرب تزداد التوترات بيننا، ويكثر العنف بالتالي في المجتمع، ويتدهور فنّ الموسيقى فيغدو وحشيّا إلى حدّ مَّا، وتختلف ردّة فعلنا التي تحرّكها الموسيقى الصّاخبة عن الهادئة، أمّا الأصوات العنيفة ذات التّردّدات العالية فهي تخترق جسد الإنسان وتنفذ إلى أعماقه، فيفسّرها بأنّها خطر عليه، ويفرز عندها هرمونات تسبّب ارتفاعاً في ضغط الدّم وتسارعا في دقّات القلب،
وتصير هذه الأعراض خبزا سلوكيّا عندما تتواصل الأصوات المفزعة، أو عندما يُفرغ الصّوت البشريّ من طبيعته، ويتحوّل إلى شيء شبيه بالعواء. يقول شكسبير: "أفشل الأشياء أعلاها صوتا"، والعواء ما هو إلاّ خوف الحيوان الكائن فينا منذ قديم الزّمان.
يُقال إنّ أسماء الآلات الموسيقيّة هي أيضا موسيقى، لكنّ آلات موسيقى الحرب ليست كذلك. وبالعودة إلى أولى هذه الأدوات، وهي البوق البدائيّ الرّهيب، وكان مصنوعا من قرن الوعل الرّئيس على قطيعه. من آلات موسيقى الحرب القديمة (الدّبادب) و(العيدان) و(الكنّارات) و(الكوسات)، وهذه كلّها كانت تستعمل في الماضي، ويؤدّي عزفها إلى شحذ قلوب المقاتلين، فيُغيرون بصراخ كبير يعتبره القادةُ السّلاحَ الأوّلَ في المعركة، فكان بأسُ المقاتِلين يتطلّب صيحةً عظيمةً تُدعى "الياو"، وهو الحدّ الأقصى للصّوت الإنسانيّ، ومن يزعق أعلى يكون صاحب اليد الطولى في الفوز. من صوت البوق البدائيّ اقتَبست صفّاراتُ الإنذارِ في المدينة الحديثة صخبَها، وهي تمثّل صوت اللاّ شيء في الوجود، وما تقوم به بدويّها العميق أنّها تنذر الجميع بأنّ اللاّ شيء سوف يحلّ في المدينة. ما يتمّ هنا في الحقيقةِ هو اكتناهٌ أوّليّ لعالم الفوضى. قالوا: اللاّ شيء والفوضى مترادفان.
جاء الأمريكان إلى العراق عامَ 2003، وكنت أسكن في حيّ "العامريّة" القريب من مطار بغداد، حيث جرتْ المعركة الأولى بين الجيش العراقي وقوات الاحتلال، وكانت طائرات الأباتشي تُطلق جلبة تشبه الصريف الناتج من أثر شحطة آلاف الأطنان من الحديد على سطح المنزل. كان الصريف يبلغني وأنا على بعد حوالي ٣٠ كيلومترا من أرض المعركة. طائرة الأباتشي كانت تحمل إذن على رأسها قرن الوعل الهادر في سماء المدينة الآمنة. من كان يظنّ أن قوات الاحتلال سوف تأتي إلى البلاد ومعها أولا صيحة "الياو"؟ إن الغابة هي المبتدأ وهي الخبر، في جملة تبدو لا معنى لها في التاريخ، وصراع الإنسان مع شبيهه لا يختلف عن صراعه مع السّباع، بل هو امتداد طبيعيّ له.
سبب التقاتل بين بني البشر ليس العوز إلى الحبّ، إنّما اللاّمبالاة، وهي التي تقف وراء إهدار دم الملايين من جنسنا. تُحفظ مسلّة حمورابي في متحف اللّوفر قرب قذيفة حربيّة تأخذ شكل مسلّة. هل يوجد فِعل يدلّ على اللاّمبالاة أكثر من هذا؟ وأهدى بيتهوفن السّيمفونيّة الثّالثة إلى نابليون بونابرت، ثمّ سحب الإهداء بعد أن اكتشف أنّه "رجل كسائر الرّجال"، يتحرّك تحت راية السّلطة والطّغيان. لذلك، أخذ الموسيقيّ سكّيناً ومرّرها على الصّفحة الأولى من صفحات توليفته الموسيقيّة، ومزّق موضع الاسم المهداة إليه هذه التّحفة الفنّيّة. لأنّ الموسيقى، وَفْقَ رأيه، "ترتفع عالياً وترفعنا معها وتخلّصنا من الغباء". كما أنّ "ما يأتي من القلب يذهب إلى القلب"، ولأنّ الرّجل الذي يعبد آلهة الحرب لا وِجدان له، فلن يحتاج إلى عالم الأنغام من بداية المطاف إلى نهايته.
أكثر الفنون ارتباطا وتمثيلا للحياة هي الموسيقى، فنغمة واحدة يمكن أن تشعل في كلّ خليّة في جسدِنا احتداما تكون نتيجتُه عاطفةً بالغةً تشدّ بيننا أواصر الحبّ والسّكِينة، إلى درجة أنّ أحدنا يكون بمقدوره سماعُ تردّد الهواء في رئتيْ ودقّات قلب الشّخص القريب إليه، والبعيد كذلك، واستنشاق رائحته. مرّة ثانية مع شكسبير: "لمسة من الطّبيعة تحوّل العالم أجمعه إلى عائلة"، وكانت شهادة الشاعر مشابهة لو أنّه كتب "الموسيقى" بدلا من "الطّبيعة". ولكن هل يوجد فرق بين الطبيعة والموسيقى؟
الأنغام طبيعة ثانية في الوجود، وهي من صنع الإنسان، وتتجه جميع الفنون الأخرى إلى السبيل الذي تؤدي إليه، فالفراغ يُداخلها إن هي سارت في طريق آخر.