حازم رعد
تعتبر الديمقراطية بشكلها العام احد اهم ادوات المجال العام اذ نشأت داخل هذا المجال الانساني وهي تقوم على مبدأ تحقيق المساواة في المواطنة امام الدولة والقوانين وتتكفل حرية التعبير وابرز اشكال النظم التي تعكس وعي المجتمع وشكل انتاجاته على مستوى السلطة فهو اداة مهمة للمجال العام والديمقراطية في ابسط تعريف لها تعني (حكم الشعب نفسه بنفسه)
وكان ذلك في التاريخ "وعند اليونان تحديداً وهم مبتكروا هذه الطريقة في الحكم" بصورة مباشرة اي عبر اجتماع الناس الاحرار في ساحة عامة تسمى الاغورا يتداولون القضايا المشتركة والمهمة الاي تسهم في تحسين اوضاعهم ولكن مع تزايد اعداد السكان والنمو الكبير للمجتمعات بات من الصعب تطبيق هذا اللون من الحكم المباشر للشعب فتطور مفهوم الديمقراطية الى شكله التمثيلي اي ان يقوم شخص او مجموعة اشخاص بتمثيل جماعة من الناس عبر عملية الاقتراع والانتخاب ويتشكل من خلال الفائزين مجلس يمثل مجموع المواطنين يتم من خلاله مناقشة مختلف القضايا العامة وتشريع القوانين واصدار القرارات التي توجه للسلطة التنفيذية للعمل بمقتضاها.
تقوم الفكرة الديمقراطية على ان الناس سواسية سياسياً وقانونياً (رغم اختلافهم وعدم سواسيتهم بالخلقة طبيعياً) فالاساس فيها هو النظر الى انسانية الانسان دون تقصي شيء اخر من التمايزات بينهم، فالمواطنون في الديمقراطية كأسنان المشط.
هذا التفاوت الذي ذكرناه اعلاه (اختلاف الناس بالخلقة) ليس حجة ضد المساواة وانما هو حجة لها فالمساواة مطلب سياسي قائم على قرار اخلاقي فهي المساواة (تساوي الفرصة) والتي تتضمن رعاية التفاوت العقلي وتضمن عدم التجاوز واضطهاد ذوي العوق والمواهب وهكذا فالديمقراطية ضامنة للمساواة والعدالة الاجتماعية,
تؤمن الديمقراطية على ان الحرية الانسانية هي حرية العقل بالدرجة الاساس حرية الايمان والضمير حرية التبادل للرأي والاجتماع وغيرها من الحريات العامة التي هي حق للانسان وليست منة من احد او من النظم المقامة فالانسان يولد حراً وتتحقق ارادته السياسية بكونه حراً يختار ما يجده مناسباً له من اقوال وممارسات واختيارات سياسية.
كما ان للحرية في الرأي والمعتقد والتعبير عن الرأي بل والحريات العامة هي الركن الركين في المجال العام اذ لولاها او لولا احداها لما امكن ان تكتمل وجهات نظر تامة او يحصل تفاهم يمكن معه استمرار العيش بأمان وطمأنينة، وحرية جميع الافراد والجماعات تكفل "مع مراعاتها" ذلك، وهذا السبيل اي "الحوار او النقاش العمومي" هو الخيار الوحيد لحسم النزاعات والبت في القضايا والمشكلات لانه السبيل الوحيد الذي يوفر العيش الامن والاستقرار الاجتماعي "داخل افق المجال العام والاجتماع الانساني" وقد اولت الفلسفة اهتماماً منقطع النظير في مسالة الحوار بل ولعل الحوار هو ما يؤطر الفلسفة لا اقل من ناحية مطارحة الافكار ومقارنتها مع بعضها وكمثال واضح على ذلك ان افلاطون يرى وذلك مثل استاذه سقراط ان الحوار هو الطريق الانسب والوحيد للبحث وللوصول الى الحقيقة ومعناه ان الحوار هو طريق الفلسفة ومسلكها للبحث والكشف والتحليل وتركيب القضايا وبناء القوالب الفكرية والمفاهيمية وتعميمها.
تقوم في جانب كبير منها على مذهب المنفعة العامة للفيلسوف جون ستيورات مل ويعرف مذهب المنفعة على انه (الافعال هي خير بقدر ما تنزع الى ان تعزز السعادة، وهي شر بقدر ما تنزع الى ان تورث الشقاء) ويقرر مشروعية الاخلاقية اهذا المذهب فيرى ان الفاعل وهو بصدد فعله يتقصى النتائج لا من حيث تأثيرها عليه هو فقط بل من حيث تأثيرها على اي شخص تمسه هذه النتائج.
والتزام هذا المذهب بفكرة المساواة من اكبر نقاط قوته فليست لذاتي ومعاناتي باهم من لذات ومعاناة الاخرين، ويعطي مثال الاستماع لمذياع في سيارة فهو قد يوفر سعادة للمستمع ذاته ولكنه قد يزعج الاخرين.
وان كان هناك نقاش كبير في هذا المذهب يمكن النقض من خلال ذلك النقاش على جوانب عديدة في هذا الذهب وبالتالي ليس هناك شيء ثابت وساكن بل الامور محل نقاش وتحليل وتحقق مستمر.
وهذا المذهب لستيورات مل يتقصد تحقيق السعادة لاكبر قدر من الناس على العكس تماماً من ما يراه كارل بوبر الذي يتبنى فكرة المنفعة ايضاً ولكنه يضع تقليل معاناة الناس شرطاً اساسياً في مذهبه غير مبدي الاهتمام بالسعادة بالدرجة الاساس، ويتميز مذهب كارل بوبر بانه يلفت الانظار مباشرة الى المشكلات والصعوبات ويحفز على الفعل العاجل لاصلاح ما يتكشف من عيوب (اننا لا نعرف كيف نجعل الناس سعداء ولكننا نعرف جيداً وسائل لتقليل معاناتهم) وهذا مبدأ سياسي فلسفي عملي اكثر مما هو نظري تجريدي يتجاوز الواقع ليسرح في المثال.
وسواء كانت تقوم على مذهب المنفعة القائل بتوفير السعادة للجميع او الاخر القائل بتقليل معاناة الجميع فهو في الاخير يصب في مصلحة الجميع ويسهم في محاولات عديدة بانتاج ما يصب في مصلحتهم ومنفعتهم.
تقوم الديمقراطية على مجموعة اعتبارات تمثل جوهر تلك الطريقة في الحكم لعل اهمها هو التعددية الحزبية والاقتراع العام والاغلبية النسبية وكل تلك المبادئ والاعتبارات متسقه مع اعتبارات المجال العام بالاجمال فتلك الاعتبارات ترجمة لعملية النقاش العمومي وحق الممارسة والحرية في التعبير.
(ان حق الاقتراع العام والانتخابات المتكررة ومسؤولية اصحاب السلطة السياسية امام الناخبين ماهي الا وسائل قد ثبت نفعها في تجسيم "الديمقراطية" كطريقة انسانية حقة للعيش انها وسائل وليست غايات ويتعين الحكم عليها على اساس قدرتها على تحقيق غاياتها ونحن اذا وضعنا الوسائل موضع الغايات التي تخدمها هذه الوسائل ستكون فعلتنا ضربا من الوثنية وعبادة الاصنام تستند هذه الاشكال السياسية الديمقراطية الى فكرة انه ليس هناك فرد بلغ من الحكمة ان يعرف الاخرين للأخرين مصالحهم ووسائل سعادتهم وخيرهم اكثر منهم وان يفرضها عليهم بغير رضاهم كل فرد يتأثر فعله ومتعاه بحالته المترتبة على النظام السياسي الذي يعيش في ظله ومن ثم فأن له حقاً في تحديد هذا النظام) كما يقول جون ديوي.
تتشكل اهمية المنهج الديمقراطي داخل المجتمع، فالمجتمع الذي تترسخ فيه الديمقراطية كعادات يومية بالفكر والعمل سيكون متميز عن غيره بعدة جوانب اساسية هي:
١- سيكون متميز من حيث الاوضاع التي تحمي حرياته فوجود مؤسسات قضائية ورقابية تعمل بموازاة الديمقراطية يجعل الاوضاع افضل مما هو عليه الحال في الدول ذات النظم الاستبدادية او الكليانية.
٢- ونوع الاجماع السائد القائم على التداول الحر للافكار والممارسة والاعتراف وعدم الاقصاء.
٣- وطبيعة الصراعات الدائرة داخله فهي تقوم بشكل لا يؤدي الى الغاء المختلف وتقوم وفق معايير القانون او يضبطها القانون بقوة جهاز القمع للدولة.
٤- والطريقة التي بها يربي حكامه ومواطنيه، فالديمقراطية بالاساس وعي وسلوك قبل ان تكون طريقة للحكم ولذا هي ترسخ فكرة المساواة والتداول السلمي للسلطة وسيادة المواطن من خلال ترسيخ فكرة انه مصدر السلطات ومانح الشرعية للحاكمين.
٥ -يكون المجال العام الذي انتج هذه الاعتبارات معبراً عن ارادة الكل فهو المعني بنقل افكار وتطلعات الجميع.
اذن الديمقراطية مجموعة من القواعد التي تحكم التنافس السياسي ومن القواعد من تتضمن بسطوة انتقائية واخرى تربوية ومن اهم ما يميز قواعد التنافس السياسي ان تسمح للخاسر ان يخسر بكرامة وكبرياء وتتيح له ان يحاول مرة اخرى اذا شاء، فليس في الديمقراطية كروت محروقة ولا معركة ديوك لابد من ان يموت الخاسر فيها.
في الديمقراطية ان الانسان المتحضر يستطيع ان يفعل باقتناع في نفس الوقت الذي يشك فيه في مبادئه الاولى ويضعها موضع التساؤل (على قاعدة المعارضة الموالية) فهي تسمح بالمخالفة وتبقي عليها وهذا جانب اخلاقي كبير في الديمقراطية.
وعلى ضوء ما سبق تتوضح امامنا صورة اهمية الديمقراطية كأداة في المجال العام فهي الاعتبار الذي يفضي الى تحقيق صوت المواطنين وترجمته الى سلطة مرأة لطموحاته وتطلعاته كما انها الممارسة الاكثر شفافية في تعضيد وتحويل فكرة الاغلبية الى معيار يحدد شكل النظام وطبيعة القوانين والنماذج المقترحة وطبيعة التعاملات داخل الفضاء العمومي بقسميه السياسي والاجتماعي.