(1 – 4)
ما المقصود بمفهوم التنافذ؟. في دراسة سابقة لنا عنوانها (شعرية التنافذ)، وبمناسبة ترجمتنا لقصيدة ريلكه (الشبابيك) ومقارنتها بقصيدة بدر شاكر السياب (شبّاك وفيقة)، تناولنا بتوسُّعٍ هذا المفهوم الذي سنحاول تقديم تلخيص له بما يفيد مدخلاً لمفهوم التنافذ على المستوى التشكيليّ.
قصيدة ريلكه (ترجمناها "النافذة") ما هي إلا استعارة مطوَّلة، ممطوطة ومدهشة، لا تغترف سوى من طاقتها الداخلية لكي تلقي أمامنا بالمعاني الغامضة. عندما نقرأ:
"المرأة التي نحبها ليست أكثر جمالاً
إلا حين نراها تطلع مُؤطَّرَةً بكِ
أنتِ، أيتها النافذة من يوشك على تأبيدها
تصير نافذة ريلكه مناسبة لشدّ القارئ إلى جملة أشياء في آن واحد: إلى مفهومة الزمن، إلى فعل الذاكرة، إلى كل ما هو مخفيٌ في العتمة، إلى كل ما لا نستطيع مسّه بأيدينا مثل هذا المستحيل المتقـنع بقناع الممكن..الخ.
تُعَرِّف اللغة الفرنسية التنافذ fenestration، بمعناه الحرفيّ، بأنه فتحة، حقيقية أو صماء، في جدار. غير أن المفردة قد استخدمت لاحقاً للتعبير عن إطلالة مجازية.
إذا ما منح ريلكه عنوان (النوافذ) للنص، فإن نصه لم يكن يخاطب إلا (نافذة واحدة) في الحقيقة، وذلك من أجل المزيد من الحنان والحرارة والحميمية التي تبوح بها كلمة النافذة بالمفرد. لكن كذلك لكي ينقل النافذة، بالحميمية تلك، من سياق العنصر الجامد، الآلة، إلى مصاف (الحيّ): العين الحيّة الكبيرة. وبالمقابل كان السيّاب يُعالج منذ البدء نافذةً واحدةً وحيدةً لسيدة اسمها وفيقة، وليس نوافذَ عدّة لها. يتكرّر فعل الأنسنة في جميع مقاطع قصيدة ريلكه بإلحاح:
لو استقصينا مفهوم التنافذ هذا على المستوى التشكيليّ الآن لوجدنا تقاطعات مفيدةـ تضيء لنا، من زاوية بصرية محض، إشكاليات الخارج – الداخل.
1 – منذ عصر النهضة ظهرت النافذة بصفتها ذريعة لإظهار المنظر الطبيعيّ. هذا الأخير (والطبيعة كلها) كان مثقلاً بدلالات رمزية ومفهومية، ومحمّلة بمعان دينية، مسيحية، أكثر مما هي مُسْتلهَمة لذاتها، ولجمالها الخاص بها وتناسقها الداخليّ وسلامها الروحيّ. المنظر الطبيعيّ (بالفرنسية paysage وبالإنكليزية Landscape) بصفته نوعاً فنياً هو اختراع متأخر نسبياً، فقد استغرق وقتاً قبل أن يستطيع أن يصير موضوعاً تصويرياً مستقلاً، وذلك عندما رسم جورجونيه لوحته "العاصفة" في عام 1507، ثم صار موضوعاً جمالياً مكتفياً بنفسه في فن التصوير الأوربيّ.
قبل جورجونيه لا يمكن الحديث عن منظر طبيعيّ حتى لو رأينا الطبيعة عبر نافذة ما، فالفارق كبير في اللغات الأوربية بين (المنظر الطبيعيّ) و(الطبيعة). لنأخذ لوحة رسّام متقدّم من عصر النهضة وأقل شهرة من أقرانه، لورنزا كوستا الأب (1460- 1535)، المعنونة "ولادة السيد المسيح" المرسومة نحو العام 1490 والمحفوظة اليوم في متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون الفرنسية. وفيها تظهر هذه الدلالة الرمزية للطبيعة التي لا يبدو أن الفنان كان يستهدف عامداً، عبر عرضها لنا عبر النافذة التي وضعها في مكان مركزيّ من اللوحة، أن تكون موصولة بولادة المسيح المبعوث إليها من قلبها. إنها رمز للسلام الربانيّ والسكينة. المنظر الطبيعيّ هنا متخيَّل إذ أنه يحاول تقديم بيت لحم بالأحرى، وليس الطبيعة.
ها هنا تصير النافدة تنافذاً بين الواقعيّ والرمزيّ، بين الطبيعيّ والمتخيّل. ألا يقع في هذا التنافذ أيضاً بعض ما كانت تتلمّسه قصيدة ريلكه "النوافذ" وقصيدة السيّاب "شبّاك وفيقة"؟.
يُتبع...