(3–4)
التنافذ مفهوم معقول لمُقارَبة العالم الخارجيّ والداخليّ، في الأدب والفن التشكيليّ.
في لوحات كثيرة أخرى للهولنديّ فيرمير نرى تكويناً مشابها لهذا: النافذة يساراً تضيء حرفياً المشهد الداخليّ بتلك الظلال واللوينات الفاتنة التي يبرع فيها الرسّام الهولنديّ، مثل لوحته "شابّة مع إبريق الماء" المرسومة بين 1662 – 1665 والمحفوظة في متحف المتروبوليتان في نيويورك. ولوحته "سيدة مع عقد من اللؤلؤ" المرسومة عام 1664 والمحفوظة في متاحف الإرث الثقافيّ البروسيّ في برلين. ولوحته "امرأة باللون الأزرق تقرأ رسالة" المرسومة بين 1662 – 1665 والمحفوظة في ريكسمموزيوم في أمستردام، وهي بوضعية وتكوين اللوحتين أعلاه لكننا لا نرى فقط النافذة مع أننا نعرف أن المرأة تقابلها كما في المرات السابقة.
ثم نصل في تاريخ الفن إلى الرومانتيكية.
هل يُشكّل الرومانتيكيون استثناءً في تعاطيهم مع مفهوم التنافذ؟.
كان غاسبار دافيد فريديريش (1774-1840) واحداً من أهم الرسّامين الألمان الرومانتيكيين، وأحد أشهر أعماله لوحته "امرأة عند النافذة" المرسومة عام 1822 والمحفوظة في الغاليري الوطنيّ في برلين. اللوحة صغيرة الحجم 44 x37سم مما يُضَيِّق من مساحة رؤيتنا ،نحن المشاهدين، نظراً لصغر الشبّاك فيها وامتلائه بجزء من جسد المرأة. لعلّ هذا الحجم الضيّق وذاك الشباك الصغير المحتشد يعبّران عن موقف الرسّام من العالم الخارجيّ ونزعة غاسبار المتشائمة المتديّـنة في آن واحد.
ربما كانت الفتاة في النافذة هي كارولين بومر، زوجة الفنان. والفضاء هو ورشة عمل غاسبار في درسدن. كارولين تتطلع في الخارج وتتأمل نهر الألب المتدفق بالسفن، لكنها في الحقيقة تتأمل في داخلها.
لقد جرى تقديم التفسير التالي الذي قد لا يوافق عليه الجميع لهذه اللوحة: أن الرسّام، عَبْرَ هذه الوضعية، يدعو المتلقي أن يحلّ محلّ المرأة ويتواصل مع الطبيعة التي يمكن حتى لفتحة الرؤية الضيقة من الشبّاك أن تُظْهر عظمتها.
لكننا في الحقيقة لا نرى شيئاً مهماً من الطبيعة عبر النافذة. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الصليب المرسوم أعلى المرأة، لأُبيح لنا الاعتقاد أنها هي، تنظر إلى عظمة الربّ التي لا نراها نحن المشاهدين كما تراها هي، فهي بالتالي مهمومة بالحياة الأبدية. ما نراه بالأحرى هو المشهد الداخليّ الكئيب الذي تشخص المرأة به بشكل بارز ونراها من الخلف. هي ترى عظمة الربّ والحياة الأبدية بينما نرى نحن قامتها. أفليس في ذلك خلط بين المقدّس والجسديّ، حتى لا نقول الجنسانيّ؟. هذا الموضوع سيستعيره سلفادور دالي في لوحة مشابهة لغرض آخر حيث رسم الوضعية نفسها للمرأة لكن بردفين مثيرين. ليكون التفسير المُحتمَل للوحة غاسبار هو: أن من يَعتقد أنه يُراقِب العالم، مهما كان نوع ما يراقبه: عظمة الطبيعة، تجليات الربّ، المارة في الشارع، إنما هو مُراقَب هو أيضاً بدوره. ألسنا نحن من يقوم بالمُراقَبة في لوحة غاسبار فتصير نافذتنا امرأةً تُراقِب عبر نافذتها؟.
مفهوم التنافـُذ تشكيليّاً
نشر في: 2 أكتوبر, 2015: 09:01 م