(4–4)
بعد العديد المتنوّع من اللوحات التي كانت النافذة فيها تحتل الصدارة لغرض ما، جماليّ أو مفهوميّ، سوف يطالعنا ماتيس 1869 - 1954 بلوحة تتموضع في سجل مختلف تماماً، وتتفارَق مع مزاج ومعاني لوحة غاسبار دافيد فريديريش على سبيل المثال. إنها لوحته "نافذة مفتوحة على [بلدية] كوليور" من عام 1905 المحفوظة في الناشيونال غاليري للفن في واشنطن.
النافذة في لوحة ماتيس الوحشية هذه هي كناية عن فن الرسم الذي ليس سوى انفتاحا على عالم آخر، عالم الرسّام الداخليّ الغامض الذي تُطِلّ عليه اللوحة وتجعلنا نطِلّ عليه. إطلالة النافذة على ميناء كوليور الفرنسيّ تمثل دون شك (لوحة داخل اللوحة)، وهذا هو التنافذ بأكثر أشكاله جلاءً وشعرية. يمتزج العالمان ها هنا تماما، الداخليّ والخارجيّ ولا يبقى من فاصل قط بينهما، حتى أن كاتباً فرنسيا يقول بشأنها إن الإطار فيها أكثر أهمية من النظر أي المشهد المرئيّ. الناحية اللونية تُوطّن هذا الاندغام، فقد استخدم ماتيس تضاد الألوان التكميلية (أزرق - برتقالي، أخضر - أحمر)، وهي تنتشر (وهنا أستعير من ناقد آخر) في موجات كبيرة مجزأة، درجاتها النقية تتناقض وتتعارض من دون تحوّلات، لذا فإن خيار الألوان المُتقارِبة، من أجل معالجة الداخل والخارج، يُشتت عيوننا بين فضاءين، ومما يعزّز الأمر أن جدار النافذة يقع في الفضاء نفسه الذي تقع فيه القوارب.
النافذة مرئية بشكل متواتر في أعمال ماتيس وكان يستهدف عبرها التقليل من البعد المنظوريّ، أو إلغاءه نهائياً (وهو ما لم يتحقق قط)، لصالح ما سيبلوره ويسميه فيما بعد "جمالية تزيينية".
من بين لوحات ماتيس التي يجري الحديث عنها قليلاً لوحة عنوانها "الباب - النافذة في كوليور" مرسومة عام 1914 ومحفوظة في متحف الفن الحديث، بوبورغ في باريس. وهو عمل ليس تجريدياً ولكنه قد يذكّرنا ببعض أعمال روتكو التجريدية اللاحقة. على ماذا تنفتح نافذة ماتيس؟. على العَدَم، على المجهول الذي تجعلنا النوافذ نُطِلّ عليه. هذا المجهول دون أبعاد ثلاثية أيضاً وسيئ التأطير مثل نافذة ماتيس هذه بالضبط.
أحسب أن النوافذ عند بيكاسو لا تقوم بالوظائف عينها ولا تمنح الدلالات نفسها دائماً. سنأخذ عملاً من فترته التكعيبية ولنقترح الوظيفة التي تقوم بها النافذة في هذه الفترة حصراً. إنها لوحته "طاولة أمام نافدة" عام 1919، كولاج، المحفوظة في متحف ساملونغ روزنغارت، سويسرا.
لقد أنجز بيكاسو سلسلة لوحات تُقارِب العشرين يتماثل فيها التكوين: طبيعة صامتة أمام نافذة مفتوحة، شرع بها في شقته الباريسية ثم في إجازاته في الريفييرا وسان-رافائيل صيف عام 1919. دفعت هذه السلسلة بيكاسو إلى الانسلال البطيء من التكعيبية الأكثر تجريدية نحو تكوينات نيوكلاسيكية سنوات العشرينات.
في جميع لوحات تلك السلسلة، وفيها أعمال مائية وغواش، ثمة مسعى لتمثيل الأحجام في الفضاء، من الأشكال المُسطَّحَة إلى الأشكال المستديرة، وبعبارة أخرى كان بعض همّه التشكيليّ المقيم هو إدانة الإيهام بالحجم في فضاء اللوحة ثنائيّ الأبعاد في حقيقة الأمر. إن انطواء جميع هذه الأعمال على عناصر تشخيصية مألوفة للمتلقين كالغيتار والقناني كان يستهدف إيصال رسالة مفادها إمكانية تقديمها بطريقة أخرى ينقصها البعد الإيهاميّ. لكن تقديمها أمام نافذة كان يستهدف في اعتقادنا وضع مفارقة المنظور، وإذْ ننتظر عمقاً (بعدا ثالثاً) في المنظر خارج النافذة، يقُدّم الرسّام في هذه اللوحة فضاءً مسطحاً تقريباً ودون نقطة التقاء في المدى كما يقترح المنظور الهندسيّ (محض سطح أزرق من المياه).
من جهة أخرى كان بيكاسو يستهدف رفع العناصر التشخيصية إلى مصاف المَسْرَحَة. وهنا يقع إيهام جديد وترويض لرؤية المشاهد على قبول هذه الطريقة في المعالجة: إنه يرسم عناصره دون التقيُّد بالمنظور ثم يضع بعدها نافذة توحي بالمنظور. تأطير النافذة يستدعي المنظور من أجل تحطيمه. التنافذ في هذه الأعمال واقع بين عالمين ثنائييّ الأبعاد، لكن لم يصلا بعد إلى مستوى التجريد.
مفهوم التنافـُذ تشكيليّاً
نشر في: 9 أكتوبر, 2015: 09:01 م