(2– 2)
وأنتَ تتأمل أعمال نادرة محمود، قد تتساءل فيما إذا كانت الصدفة وحدها هي التي جعلتها تنتمي إلى بلد كعُمَان، ومدينة كمسقط، ولماذا؟ وهل تتفارَق مدينتها وبلدها عن منطقة الخليج وبماذا؟. صحيح أن الفن لا يعترف بالحدود الجغرافية، صحيح قبل ذلك أن الإطار التاريخيّ والحضاريّ يشتغل بخفاء في تكوين الكائنات المبدعة. وهنا نفهم جيداً أن ثقافة بَحْريّة، تجاريّة، مُغامِرَة، بل مُسْتعمِرَة كالثقافة التاريخية العُمانية قد ساهمت في تكوين أصواتٍ إبداعية في البلد، مختلفة بدرجاتٍ متفاوتة عن أقرانها في منطقة الخليج، ونادرة محمود على رأسهم في الفن التشكيليّ، في الغالب الأعمّ.
هذا الاختلاف الروحيّ التشكيليّ الشخصيّ موصول، بخفاءٍ، بموقع جغرافي مختلف بعض الشيء، إذ بقدر ما هو محصور بين خليج عُمَان وجبال الحجر الشرقيّ، فإنه منفتح غاية الانفتاح على الحضارة العربية بجميع أنساقها: اليمنية والصحراوية والمدينية التجارية، ومشتبك بالاختلاطات الحضارية اللاحقة من كل نوع، خاصة البرتغالية، وهي تضفي مُجتمِعَة على مدينة كمسقط نكهة المدينة المستتبّة بالأحرى مقارنة بجيرانها المذكورين.
ألا يكفي هذا لتكوين شخصية تشكيلية متميّزة، شرط توفر الدوافع الجمالية والشغف البلاستيكيّ؟. هذا هو حال نادرة محمود.
لكن كل هذا لا يكفي لتفسير عملها.
لقد ألقت نادرة محمود نفسها في الخِضَمّ الصعب، لنقل المسألة ببساطة: التجريد فن صعب، وأزعم ببعض الثقة أنه قد يكون أصعب من التشخيص المألوف. فالأخير يمكن (غالباً وليس دائماً) أن يُبني وفق خلطة مُجَرَّبَة، وحسب وصفة مسبقة، نجحتْ بشكل أو بآخر بسبب ديمومة الإعادة والاستعادة وطول التكرار. لاحظوا تكرار الفيكرات نفسها والتلوين عينه لدى رسّامين عرب بارعين تشخيصيين، وتجريديين بدرجة أقلّ.
في أعمال الفنانة نادرة محمود، لا توجد خلطة سحرية، لا وصفة سابقة، لا إبهار جاهز. لا مكان خاصةً للإبهار وهو ليس من طبيعة عملها. تقوم لوحاتها من تلقاء ذاتها تقريباً، نكاد القول إنها تنبثق وفق العلاقات الداخلية الحميمة للكتل والقليل من الألوان التي تتحاوَر وتتجاوَر، وتُقرّر، تحت رقابة الفنانة، أن تُكوِّنَ فضاءً آخرَ، جسداً آخرَ: لوحة أو منحوتة، حسب موادّها وشهوات ملمسها وتوْق روحها.
تنبثق المفردة التشكيلية من ضرورة قاهرة، من علاقة حميمة، غامضة كالحبّ، بغيرها تدفعها للشخوص في مكان محدّد. وكالشعر الذي يسميه العرب (المطبوع) الذي تنبثق مفرداته انبثاقاً، ضمن تعالقات خاصة حميمية، هي التي تبني المعمار النهائيّ للنص، لا يشعر المرء أمام لوحاتها إلا بهذا الانبثاقات الطالعة على سجيّتها لبناء العمل في نهاية المطاف. وإذا ما فرّق النقاد الحسّاسون بين (المطبوع) و(المصنوع) في الشعر، فإن الفن التشكيليّ العربيّ الحديث الذي لم يتجاوز المئة عام من عمره، ما زال بحاجة إلى تمييز من هذا القبيل، حيث المصنوع يتلبّس ثياب المطبوع مُمَوِّها على المُشاهِد حقيقة الأمر.
يقع فن نادرة محمود في المطبوع التشكيليّ مع سيطرةٍ بديهيةٍ لازمة على الصنعة.
نادرة محمود: الشرط المدينيّ والشغف البلاستيكيّ
نشر في: 18 ديسمبر, 2015: 09:01 م