كان لجدتي الحاجة (صفية) يرحمها الله، منطقها المختلف في رواية أية واقعة تاريخية بنسختها الشخصية وطريقتها اللذيذة المحببة إلى النفس .. فكانت لا تروي الحدث إلا مع إضافة الكثير من المطيّبات الكلامية والمحسنات التعبيرية التي تجعلنا في نهاية الأمر نقع تحت طائلة التسليم لجديتها أو انسراحاتها وهي تتلاعب بالكلمات!
وكان الأمر الوحيد الذي يعوزها في روايتها، أنها لا تتذكر تواريخ بعينها، فهي عاجزة عن استحضار الوقائع بأعوامها، وكانت تستعين بدلاً من ذلك بوقائع اجتماعية تقبع في ذاكرتها، فمثلاً تزوج فلان في سنة الغركـة، وتوفي علان في سنة اللجنة.. ربما كانت لجنة صحية أو تربوية أو لتعداد السكان!
وحين شاخت الجدّة، وكبرنا، كانت هي التي تستعلم عن اليوم أو الشهر أو السنة، وكنا نمارس شقاوتنا معها، فنقول لها: إنها سنة اللجنة.. وكانت تصدق أو تتظاهر بالتصديق، وهي في دخيلة نفسها تعلم أننا نرد عليها بطريقتها ذات عام .. أو ذات زمان!
تختلط عندي الآن الصور والتواريخ واللجان، ولا أعرف مع أي من اللجان أبدأ وأنا اتحدث عن الشأن الرياضي العراقي الغارق في السوداوية والتعقيد والتناحر والتهميش .. لكني سأتوقف عند (اللجـنة) الأكثر استئثاراً بالضوء في أيامنا هذه.. لجنة تراخيص الأندية المشاركة في الدوري، وهي لجنة فريدة نادرة في طريقة تعاطيها مع اشتراطات الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، والأصح أن رجالها وهم أناس أكنّ لهم كل التقدير والحب ولهم مكانة مميزة في وسطنا الرياضي، لا يملكون إلا هذه الزيارات المكوكية المستمرة التي يتنقلون فيها ذات اليمين وذات الشمال بحثاً عن أية إجابة مفيدة يرسل بها أيّ ناد عراقي إلى الاتحاد الآسيوي.. رسالة يقول فيها إنه قد اكتسب واستوفى الشروط التي يستحق معها أن يكون نادياً بحق!
المعضلة في الأمر، وهو ما يضحك في الوقت عينه، أنني أنا أعرف، وأنت تعرف، واللجنة تعرف، بل وكثير من قيادات الاتحاد الآسيوي تعرف مقدار الإهمال الذي عانته البنية التحتية للأندية العراقية خلال عقود متواصلة من عمر الزمن ، حتى بات نادٍ مثل القوة الجوية أو الزوراء أو الطلبة أو الشرطة لا يملك ملعباً يستوفي الشروط ، فالملعب الذي يملكه لا يرقى حتى إلى المقارنة مع ملعب تابع لنادٍ في الدرجة الثالثة في بلد مجهول كروياً مثل بوتان أو ميانمار أو لاوس!
إنها بحق نتائج الإهمال المتعمد للرياضة بشخص أنديتنا الرياضية، الجماهيري منها وغير الجماهيري، وقد بلغ الحال أن لجنة التراخيص تدور وتطـّـلع وتسجل وتقيّم وتراجع، وفي قرارة نفس كل عضو فيها شعور بأنه قد تمّ توريطه تماماً بهذه المهمة، ذلك لأن شعوره يتوزع بين الإقرار بالوقائع كما هي من دون تزويق أو ترقيع، وبين إيصال الحقيقة إلى ما وراء الحدود، وهي حقيقة صادمة دامية!
ومن هنا بالذات، يشعر كل فرد في لجنة التراخيص أنه الرقيب أو المقيّم الذي يجب أن يؤدي واجبه ولا ينسى أبداً مشاعره أو وطنيته، فبأي مقياس سيقال إن نادياً مثل الزوراء أو الشرطة أو الجوية أو الطلبة لا يملك إلا الرصيد الشحيح من النقاط ، وإن أمامه شوطاً، بل أشواطاً طويلة عليه أن يقطعها قبل أن يكتسب صفة النادي الرسمية، وذلك بعد أن بلغ هذا الفريق نهائي الأندية الآسيوية قبل أكثر من أربعة عقود ونصف من الزمن، أو أحرز هذا النادي الدوري العراقي واقعاً وفعلاً قبل أربعين أو ثلاثين سنة؟!
إنها (سنة اللجنة) .. لجنة التراخيص التي تقع اليوم تحت ضغوط لا تحتمل .. ضغوط من أجل تمشية الحال تحقيقاً لمصلحة عامة هي استمرار الدوري بنصابه وبكباره ، فيما واقع الحال يروي لنا الكارثة التي نعيشها، ونتكيف معها، منذ عهود وعهود.
جدّتي.. وعام الـتـراخـيـص!
نشر في: 24 يوليو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/almada-ad.jpeg)
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/almada-ad.jpeg)
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/Almada-logo.png)