ثمة مفردتان عراقيتان تربطان (السياسة) في أفقها المحليّ بـ (الألاعيب) و(الحيل) و(التخابُث) والتحايُل على الجمهور. الأولى بلتيقة (برتيقة)، ومعناها العريض، في الاستخدام الشعبيّ، الحيلة، أو الألعوبة التي يُستهدف من ورائها التضليل. سيُعْجب المرء أنها مشتقة ومحوّرة من مفردة بوليتيكا = السياسة (Politica). لقد فهم العراقيون السياسة بصفتها محض بلتيقه (برتيقة). وأظنّ أنهم تأملوا سياسات العثمانيين فوجدوها بلتقية وراء بلتقية، وأحسب المفردة دخلت إلى لسان العراقيين زمن الدولة العثمانية.
أما المفردة الأخرى فهي (بلشتي) ومعناها في الاستخدام العراقيّ وعموم الخليجيّ، المحتال، صاحب الحيلة، سيئ الخلق والعاطل عن العمل. وهي على الأرجح من الفارسية (بَلَشت) (پلشت) كما في المعاجم الفارسية المعاصرة، ومعناها القذر، وقد تُطلق على الكسول الذي لا عمل له. حسب كتاب رفعت رؤوف البزركان (الألفاظ الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة)، بلش (بلشت) تعني السارق والمغتصب.
لكن هناك من يقترح أنها مشتقة من الترجمات العربية الأولى للبلشفي bolchevik. والبلاشفة أو البلشفيك تعني الأكثرية وقد أطلقت جماعة الجناح اليساري من أنصار لينين، في حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي هذا التعبير على نفسها عام 1903، بينما سُمي البقية بالمونشفيك أي الأقلية. ويبدو أن التسمية العراقية بلشتي، حسب هذه الفرضية الصعبة، تُضْمر الاعتقاد أن البلاشفة كانوا أصحاب حيلة أوْصَلَتهم إلى السلطة. وبهذه المناسبة فإن (المسقوفي) في اللهجة العراقية البغداديّة تشير إلى الموسكوفي Moskovich أي ساكن موسكو.
ولا نعرف علاقة منطقية بين (البلشتي) و(البلشفي) سوى التصويت الخارجي الاعتباطيّ الذي يميل إليه غير المعنيين باللغات واللسانيات، وهم يشكّلون قطّاعاً واسعاً، للأسف، من الخائضين في أصول اللهجات المحلية واللغات.
عند العراقيين، كل مُمارِس للبلتيقة والبلشتي ليس سوى (سيبندي) أي محتال، والمفردة هذه فارسية وتعني (أبو الثلاث ورقات)، مُركَّبة من (سي- بند)، سه = ثلاثة، وبند = بنود أو أقسام.
هكذا نجد أن الوعي الشعبيّ كان مبكراً في نسيان السياسة تماماً، والتشديد على البلتيقة، المشتقة لفظياً من السياسة، بوصفها جوهرَ آليةِ المُخادَعة بين البشر، وكان هذا الوعي حاذقاً في مُقارَبة الكائن المُخادِع بخفّة يد لاعب الورقات الثلاث، السيبندي.
في الفكر الأوربيّ السؤال المطروح يظل ملحاً عن العلاقة بين (السياسة) و(الأيطيقيا = البعد الأخلاقيّ)، ويبقى التفارُق ملموساً عبر ثنائية أمير (ميكافيللي) والعقد الاجتماعي لـ (جان جاك روسو): بين لاأخلاقية الغايات التي تبرر الوسائل، وأخلاقية الفيلسوف الرفيع الذي لا يقبل ذلك المنطق. ميكافيللي ظاهرياً هو سيد "البرتيقة": "من الضروري أن يتعلم الأمير، إذا أراد أن يبقى في السلطة، أن لا يكون في الخير، أن يستخدمه أو لا يستخدمه حسب الضرورة". (الأمير، الفصل 15). في حين يتحدث روسو عن (الطبيعيّ) و(حالة الإنسان في قلب الطبيعة) التي تجعله (طيباً) بالضرورة، حتى في السياسة، وأنه يمكن أن يميل إلى التحسّن والكمال مثله مثل المجتمع، وهذا يفترض أن عليه أن يتعلم السياسة بمعناها العالي.
من جهة أخرى، الواقعية ليست برتيقة، وحتى واقعيو السياسة الأوربيون حدّ النخاع، يشيرون عن حق أن على السياسيين تحرير أنفسهم - ولو جزئياً في بعض الظروف - من (التشفير المبتذل) للسياسة.
"الوعظ بالفضيلة" ليست من مسؤولية السياسي ولا من نشاطه، ولكن هذا الأمر لا يعني بحال من الأحوال أن من حقه ممارسة البرتيقة.
بلتيقة، برتيقة = بولتيكا Politica
[post-views]
نشر في: 12 فبراير, 2018: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...