هل تناسب كلمة "حفريات" الحديث عن "الشعر" والشعريات؟
يُقصد بالحفريات علم الآثار (الأركيولوجيا). والمفردة من اليونانية القديمة، وتتكوّن من أرخايوس (archaíos) أي قديم، عتيق (المشتقة بدورها من أركه "arkhê")، ومن لوغوس= كلمة، خطاب، علم، تعقّل، ومنه تجيء اليوم مفردة المنطق [العقليّ] لوجيك Logic. مصطلح علم الآثار حسب اليونان يشير إلى دراسة (الأشياء، الحاجيات) التي يصنعها الإنسان، وبالتالي يركّز على تقنية هذه "الصناعة.
في "العالم القديم"، يميل علم الآثار، حسب ويكيبيديا كما المعاجم الأخرى، إلى التكرُّس لدراسة البقايا المادية، والأساليب المُستخدمة في إنشائها، والأسس النظرية والفلسفية الكامنة وراء هذا الغرض. الشهادة الأركيولوجية الأولى بالمعنى الدقيق، تعود إلى العصر اليونانيّ الكلاسيكيّ، مروية من قبل ثوسيديدس. إذ خلال الأعمال في جزر ديلوس، يشير الرجل إلى اكتشاف المقابر القديمة، ويذكر أن المتوفين ربما كانوا قراصنة كاريين (من Carie) بسبب الملابس التي يمكن التعرّف عليها في قبورهم.
هذا التحديد لمفهوم الحفريات لا يقفز على الأسس النظرية والفلسفية العاملة أثناء الدراسة. بل العكس يقع في صلبها. من جهة أخرى: ثمة بهجة ودهشة مُسْتحصَلة من كلّ حفر أركيولوجي بالمعنى المباشر للكلمة، كما بالمعنى الرمزي لهذا الحفر. لا بد أن مكتشفي مقابر ديلوس، قفزوا دهشةً وفرحاً باكتشافهم فجأة أن الأمر يتعلق بقراصنةٍ.
وما يؤكد هذه القضية أن الأركية (arkhê) هو مفهوم فلسفي أغريقيّ، يعني: الأصل، الأساس، بداية العالم، أو المبدأ الأول لكلّ شيء. نعم، المبدأ هو ما يبدأ ولكن أيضا هو ما يقود. يُذكَر أنّ أناكسيماندر (610-547 قبل الميلاد)، هو أول من استخدم هذا المصطلح للإشارة إلى مبدأ الأشياء، ولكن سيده تاليس تصوّر الماء بالفعل المبدأ الأول. وهو تصوّر موجود في الفكر الدينيّ التوحيديّ اللاحق المعروف.
ما يثير الاستغراب حقاً هو هذا التطابُق بين مفهوم الأركي (arkhê) اليونانيّ، ومفهوم (الحافرة) العربي الذي يعني الخلقة الأولى، الأمر الأول. فأنتَ تقرأ في لسان العرب قولهم الْتَقَى القومُ فاقتتلوا عند الحافِرَةِ أَي عند أَوَّل ما الْتَقَوْا. ورجع على حافرته أَي الطريق الذي جاء منه. والحافِرَةُ: الخلقة الأُولى. وفي النص القرآني: "أَئِنَّا لَمَرْدُودونَ في الحافِرَةِ"؛ أَي في أَول أَمرنا؛ وأَنشد ابن الأَعرابي (أَحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ؟ - مَعاذَ اللهِ من سَفَهٍ وعارِ): يقول: أَأَرجع إِلى ما كنت عليه في شبابي وأَمري الأَول من الغَزَلِ والصِّبَا بعدما شِبْتُ وصَلِعْتُ؟ والحافرة هي العَوْدَةُ في الشيء حتى يُرَدَّ آخِره على أَوّله. وفي الحديث (إِن هذا الأَمر لا يُترك على حاله حتى يُرَدَّ على حافِرَتِه)؛ أَي على أَوّل تأْسيسه. وقال الفراء في عبارة القرآن (في الحافرة): معناه أَئنا لمردودون إِلى أَمرنا الأَوّل أَي الحياة. وقال ابن الأَعرابي (في الحافرة)، أَي في الدنيا كما كنا؛ وقيل في الحافرة أَي في الخلق الأَول بعدما نموت.
هذا التطابق هو مثال على "الحفريات الأدبية" أيضاً بأجلى الصور كما نحسب.
أخيراً إذا تطابق مفهوم الأركي اليونانيّ (arkhê) = الأصل والمبدأ، مع الحافرة العربيّ = الخلقة الأولى، فلأنّ الفعل حَفَرَ بالعربية يعني الأساس والأسّ، والتنقية مثل استحفار النهر، أو الذهاب إلى العمق (قلْع الشيء سُفْلا) كما يقول ابن فارس، وحافِر الفَرسِ من ذلك، كأنّه يحفر به الأرض. حَفَرَ الشيءَ يَحْفِرُهُ واحْتَفَرَهُ نَقَّاهُ، كما تُحْفَرُ الأرضُ.
ومن ذلك اسْتُخْدَم الفعل وجوديّاً: حَفَرَ المرأةَ بمعنى جامَعَها. وهنا لدينا علاقة جديدة بين دلالتين متباعدتين ظاهرياً ولا يمكن تأويل أحداهما (المجامعة) بفعل الحفْر المالوف المعروف. على كل حال هنا نحن أمام حفرة وجودية مرعبة. وفي ذلك تقول الشاعرة التشيلية غابرييل منسترال:
"عندما ينحنون فوقي [الرجال] فكأنهم ينحنون على هوّة عميقة".
ها هنا مثال جديد على "الحفريات الأدبية" لكن على مستوى شعريّ هذه المرة.
حفريّات الشعر
نشر في: 1 يناير, 2018: 09:01 م