شاكر لعيبي
من وجهة نظر شعرية، يبدو المعجم العربيّ "لسان العرب" منجماً للاستعارة. تبدو لغة العرب نفسها استعارات متوالية، لا نهائية، يتألّق بعضها بالشعر الصافي. أقول ذلك وقد قرأتُ، خلافاً للمعتاد، اللسان كله. مرة دون مناسبة في جنيف، ومرة ثانية مؤخّراً في تونس بمناسبة كتابتي لمبحث طويل لم يُنشر عنوانه (لسان العرب حسب سيغموند فرويد).
عنوان هذا العمود في ظني، يستلزمه كتاب مأمول، لكن إذا ما بحثنا الأمر بسرعة. نشير فحسب إلى أمرين: أن الوجهة الاشتقاقية التي تقذف مفردة ما، في زمن ما، أو استخدام ما، بعيداً عن معناها (الحقيقيّ)، تجعلها تصير في نهاية المطاف ضرباً من المجاز، هو من المشترك بين المعاجم كلها.
الثاني: أن هذا المجاز (وأحياناً الاستعارة بوجهها الكامل) الذاهب عند الاستخدام مذهب (المعنى الحقيقي) منسيّ الجذر بين المستخدمين، يختلف من لغة إلى أخرى. فهناك لغات تتوقف عند الظلال الدقيقة للمعنى وتربطه بأصله، وهي لا تقبل كثيراً إحلال دلالة (مدلول) بدلالة (مدلول) أخرى، فالفرنسية تفرّق بدقة بين الأفعال (نظر) و(رأى) و(شاهد) خلافاً للعربية التي يمكن أن تُحِلّ دلالات أحد هذه الأفعال محلّ دلالة الآخر.
لسان العرب يسمح بهذا الإحلال على نطاق واسع، حتى وإن وقع الجدال في حقبة ما بشأن (الحقيقيّ) و(المجازيّ) في النص القرآنيّ. هناك من رفض فكرة أن القرآن يستخدم المفردات بمعنى مجازيّ. واقع الاستخدام اللغويّ يُثبت عكس ذلك بجدارة. إنه يثبت أن لسان العرب هو حقل خصب للاستعارة، أي الوله بالدلالات الشعرية (وهذا الأمر هو جوهر هذا العمود). سأتوقف أمام مثال واحد بقدر ما يسمح العمود، الفعل ضرب.
"ضرب الوتد: دقّه حتى رسب في الأرض. وضرب الدرهم: طبعه. الضرب: الصياغة. وتَضرّبَ الشيء واضطرب: تحرّك وماج. ضرب ببلية: رمي بها. وضربت الشاة بلون كذا أي خولطت. وضرب في الأرض: خرج فيها تاجراً أو غازياً، وقيل: أسرع، وقيل: ذهب فيها، وقيل: سار في ابتغاء الرزق. المضاربة أن تعطي مالا لغيرك يتجر فيه فيكون له سهم معلوم من الربح، وهي مفاعلة من الضرب في الأرض والسير فيها للتجارة. وضربت الطير: ذهبت. وضرب بنفسه الأرض ضرباً: أقام. وضرب البعير في جهازه أي نفر. وضربت فيهم فلانة بعرق ذي أشب [التباس] أي أفسدت نسبهم بولادتها فيهم، وقيل: عرقت فيهم عرق سوء. وفي حديث علي قال: إذا كان كذا [ذكر فتنة] "ضرب يعسوب الدين بذنبه" أي أسرع الذهاب في الأرض فراراً من الفتن، وقيل أسرع الذهاب في الأرض بأتباعه. وضرب على يد فلان إذا حجر عليه. وضرب الفحل الناقة ضراباً: نكحها. والضرب، بالتحريك: العسل الأبيض الغليظ. وأضربت عن الشيء: كففت وأعرضت. وضرب عنه الذكر وأضرب عنه: صرفه. وأضرب عنه أي أعرض. ضربت فلاناً عن فلان أي كففته عنه، فأضرب عنه إضراباً إذا كفّ. وأضرب الرجل في البيت: أقام. وضربت الشيء بالشيء وضربته: خلطته. وضربت بينهم في الشر: خلطت. فلان ضريب فلان أي نظيره، وضريب الشيء مثله وشكله. الضرْب هو المثل والشبيه، وجمعه ضروب. وهو الضريب. ضَرْبُ الأمثال اعتبار الشيء بغيره. وقوله تعالى "واضربْ لهم مثلاً أصحاب القرية”، معناه اذكرْ لهم مثلاً. والضرب: الرجل الخفيف اللحم، وقيل: الندب الماضي الذي ليس برهل، قال طرفة "أنا الرجل الضرب، الذي تعرفونه". وضرب على العبد الإتاوة: أوجبها عليه بالتأجيل. والاسم: الضريبة. وضارب فلان لفلان في ماله إذا اتجر فيه، وقارضه. وضرب الليل بأرواقه: أقبل. ضرب الدهر بيننا أي بعد ما بيننا. ضرب العرق إذا تحرّك بقوة. ضرب فلان الغائط إذا مضى إلى موضع يقضي فيه حاجته. ويقال (فلان أعزب عقلاً من ضارب)".
ومن الممكن أن نستشهد أيضاً بالفعل (حذف): حذف المقال وحذفني بالحجارة، لكي نعزّز فرضية أن المعجم العربيّ، بحد ذاته، حقل شاسع للاستعارة، ومنجم للشِّعْر المُضْمَر.