شاكر لعيبي
لنعد من وجهة نظر أخرى، لفرضيات [بعض] الوعي الأوربيّ ومقلديه العرب، خبط عشواء، بشأن علاقة مثلية بين أنكيدو وجلجامش. مثل هذه الفرضيات المثلية والسحاقية، حاول هذا الوعي إقحامها كذلك على التصوير الفوتوغرافيّ (الذي يتقدّم خدّاعاً بصفته وثيقة فوتوغرافية) منذ نهاية القرن التاسع عشر، عند تقديمه نساء المغرب العربيّ ومصر عاريات، لكن بصيغ تنمّ عن وعي استشراقيّ بأسوأ ما للكلمة من دلالة. إسقاطيّ، أي بصيغ تنمّ عن فنتازيا الرجل الكاثوليكيّ (على ما تقول باحثة ألمانية استشهدتُ بها في كتابي ("الشرق المؤنث: عري عربي") المحافظ، ورغبته الدفينة بعالم حريميّ، متعدّد العلاقات والوضعيات ودون تابو طالما قيَّدته به الكنيسة الكاثوليكية. هذا السياق المعقَّد يؤخذ بنظر الاعتبار. في حالات كثيرة، يدلّ هذا التصوير على نزعات دفينة، مثلية وبيدوفيلية عند المصوّر نفسه وليس موضوعه. نزعات دفينة، مثلية وبيدوفيلية عند المؤلفين أنفسهم، دون أن أطلق حكم قيمة على المثلية منهما.
لنقرأ أخيراً ورود الجُمل التي دفعت بعضهم للحديث عن علاقة مثلية بين البطلين:
جلجامش يروي حلماً لأمه:
"نجوم السماء ظهرت فوقي - أحدها كصخرة من السماء سقط أمامي - أردت أن أرفعه، لكنّه كان ثقيلا عليّ […] وكزوجة أحببته، ولاطفته، وأحتضنته".
تأويل الأم لهذا المقطع من الحلم:
"وأما كزوجة أنت ستحبّه، وتلاطفه وتحتضنه. فسيكون قوياً ويدافع عنك على الدوام".
ثم حلم آخر:
"كانت فأس مطروحة قد تجمّع الناس حولها - أوروك واقفة حولها - البلاد مزدحمة حولها
- يتدافعون إليها - الرجال قد ازدحموا حولها - أنا رفعته ووضعته عند قدميك - كزوجة أنا احببتها ولاطفتها واحتضنتها - وأنت يا أمّاه جعلتيه صنواً لي". [هنا يتحدث عن الصخرة التي احتضنها إذا صحّت الترجمة]
تأويل أمه:
"يا بني، الفأس التي رأيتها صديق - كزوجة أنت أحببتها ولاطفتها واحتضنتها".
في مرة رأى جلجامش صخرة، وأخرى فأساً، وكلاهما ليسا من الرموز الجنسية ولا المثلية، المعروفة في علم النفس الحديث. إنهما رمزان للقوة والصلابة والشدّة والبطش، ولعل الفأس للقتل. ثم أن الحديث عن زوجة لا يحيل أو يشير أو يوحي إلى علاقة مثلية بين رجلين. العكس تماماً. والتشبيه (جعلته كزوجة) يشير بالأحرى إلى المحبة العميقة والإلفة، لأن العلاقة بين الزوجين، حسب علمي، لا تقوم فقط على العلاقة الجنسية. (ولا بين المثليين بالطبع لكن لا مقام هنا للبحث في ذلك)
كل ذلك جعل المتحف البريطاني يقول إن "مثل هذه الحميمية بين البطلين لا تتضمن بالضرورة رغبة جنسية".
Such intimacy does not necessarily involve sexual desire.
ويضيف المتحف: "لا يوجد اتصال جنسيّ واضح، لكن العلاقة قد وُصفتْ بتعابير أيروتيكية".
There is no clear sexual contact, but the relationship is described in erotic terms.
هنا مربط الفرس: وصفتْ بتعابير أيروتيكية. من قرأ الملحمة منا جميعاً لم تَقُدْهُ التعابير سوى إلى تخيّل مفهوم المحبة. لماذا؟ لأن السياق النصيّ كله مشحون بذلك، بما في ذلك هذه المقاطع.
أخيراً:
الملحمة مليئة بتلك التعابير العفوية الضاربة في طفولة البشرية (بالعراقي يقولون عنها تعابير "فطيرة" = ساذجة فطرية) التي من الممكن أن يجري تأويلها اليوم وفق شتى التأويلات التي لا تنتمي إلى السياق كثيراً.