هل مفردة "التسقيط" من الكلام العاميّ؟
شاكر لعيبي
لنعد القول إن الأفق الاستعاريّ لمفردات المعجم العربيّ، أكثر حضوراً وطغياناً، في الأقل، من الدلالة الحقيقية لإشاراتها. كل لغة في العالم تتنقل في الغالب من الاستخدام الحقيقيّ إلى الاستخدام المجازي، لكن هل على شاكلة لغة العرب؟ هذا هو السؤال الذي ما زال يشغلنا منذ شهور. يكفي أن نتأمل فعلاُ مثل ضَرَب للتأكد من هذا التوغّل الاستعاريّ، هذا إذا لم نتحدث عن هذا الانتقال شبه البديهي في الذاكرة اللغوية العربية بين دلالتي الفعلين "سمع" و"أصغى"، والفعلين "شاهد" و"نظر ».
الآن سننظر في انتثار دلالات ومعاني الفعل "سَقَطَ"، بمناسبة مفردة تطالعنا كثيراً إلا وهي "التسقيط" الحديثة بمعنى "إسقاط" قيمة شخص ما أو منزلته الاجتماعية أو السياسية، وقد بحثنا مراراً عن أصلٍ لهذا الاستخدام، فلم نجد. فهل المفردة عامية بالأحرى؟
في لسان العرب سقط، ومنه السقطة: الوقعة الشديدة . سقط يسقط سقوطاً، فهو ساقط وسقوط: وقع، قال:
من كل بلهاء سقوط البرقع بيضاء لم تحفظ ولم تضيع
والمسقط، بالفتح: السقوط. وسقط الشيء من يدي سقوطا، وفي الحديث: لله عز وجل أفرح بتوبة عبدهه من أحدكم يسقط على بعيره وقد أضله؛ معناه يعثر على موضعه ويقع عليه كما يقع الطائر على وكره. وفي حديث الحارث بن حسان: قال له النبي، وسأله عن شيء فقال: على الخبير سقطت؛ أي على العارف به وقعت، وهو مثل سائر للعرب. وهذا المثل يستخدم الفعل بطريقة مجازية تامة. ومسقط الشيء ومسقطه، موضع سقوطه.
وقالوا: البصرة مسقط رأسي مسقطه، وهنا استخدام مجازي آخر، وتساقط على الشيء أي ألقى نفسه عليه وأسقطه هو. تساقط الشيء تتابع سقوطه.
لتتالى الاستخدامات الاستعارية :
فالمسقط مثال المجلس: الموضع، يقال: هذا مسقط رأسي حيث ولد، وهذا مسقط السوط، حيث وقع، وأنا في مسقط النجم، حيث سقط.
وأسقطت المرأة ولدها إسقاطاً، وهي مسقط: ألقته لغير تمام من السقوط، وهذا السقوط رمزي بالأحرى.
وسقط الزند ما وقع من النار حين يقدح. وسقط الرمل وسقطه وسقطه ومسقطه: بمعنى منقطعه، وأقل من ذلك مجازية، لأنه مربوط بشكل ما بفعل السقوط الحقيقي، قولهم سقاط النخل ما سقط من بسره وسقيط السحاب هو البرد والسقيط الثلج يقال أصبحت الأرض مبيضة من السقيط. والسقيط الجليد.
لكن السقط من الأشياء: ما تسقطه فلا تعتد به من الجند والقوم ونحوه. والسقاطات من الأشياء: ما يتهاون به من رذالة الطعام والثياب ونحوها. والسقط: رديء المتاع. والسقط: ما أسقط من الشيء. وكل ذلك على محمل غير حقيقي البتة لفعل السقوط، ومن أمثالهم "سقط العشاء به على سرحان"، يُضرب مثلا للرجل يبغي البغية فيقع في أمر يهلكه. ويقال لخرثي المتاع: سقط . وسقاط الحديث: أن يتحدث الواحد وينصت له الآخر فإذا سكت تحدث الساكت. سقط إليَّ قوم: نزلوا عليَّ. وسقط الحر يسقط سقوطاً: يكنى به عن النزول. السقاط الخطأ في القول والحساب والكتاب أسقط سقط في كلامه وبكلامه سقوطا أخطأ وتكلم فما أسقط كلمة وما أسقط حرفا وما أسقط في كلمة وما سقط بها أي ما أخطأ فيها. والسقطة: العثرة والزلة، وكذلك السقاط. وإذا لم يلحق الإنسان ملحق الكرام يقال : ساقط. وما زالت المفردة مستخدمة نفسها. في قوله تعالى "ولما سقط في أيديهم »; يقال : سقط في يده وأسقط من الندامة، وسقط أكثر وأجود. وخبر فلان خبرا فسقط في يده وأسقط . يقال للرجل النادم على ما فعل الحسر على ما فرط منه: قد سقط في يده وأسقط . والسقط: الفضيحة وهذا من أعلى المجازات للفعل. والساقطة والسقيط: الناقص العقل، والأنثى سقيطة. والساقط والساقطة: اللئيم في حسبه ونفسه. ساقط الفرس العدو سقاطا إذا جاء مسترخيا، وهذا أيضا مجاز عال. والسقاط: السيف يسقط من وراء الضريبة يقطعها حتى يجوز إلى الأرض. وسقط السحاب: حيث يرى طرفه كأنه ساقط على الأرض في ناحية الأفق. وسقطا الخباء : ناحيتاه . وسقطا الطائر وسقاطاه ومسقطاه: جناحاه، وهنا يذكر اللسان إن ذلك على الاستعارة، ويقال الرجل فيه سقاط إذا فتر في أمره وونى .
لا نجد لمفردة "التسقيط" أثرا في اللسان، رغم أنها صيغة "تفعيل" التي عليها أن تكون موصولة بالفعل سقَّطَ، فلا هذا الفعل المشدّد الدال على التكثير، من بين دلالات أخرى، ولا صيغته المبالغة الحالية بمنطقيين، في ظني، في مقام محمول الفعل ذاته.