علي رياح
شعب بلا ذاكرة حيّة ، لا يمكن أن يصنع أملاً ، أو يُقيم مجداً ، أو يَبني مستقبلاً .. فلا يمكن للشعوب أن تتطلّع إلى هام السُحب ، إذا كانت لديها ذاكرة السَمك ، كما يقول المثل الياباني!
كنت أبحث عن أية إشارة مكتوبة مُوثـَّقة لحدثٍ على جانب كبير من الأهمية جرى في شهر تشرين الثاني من العام الماضي ، وقد عثرت عليها أخيراً في جريدة (الراية) القطرية ، وهي إشارة تتعلّق بـما أسماه اليابانيون (محـاكـاة الأحـزان) وهنا لا بدّ من التفاصيل!
ففي ذلك الموعد جاء وفد كروي وإعلامي ياباني كبير إلى قطر ، ولم تكن غايته إلا استعادة فصول العذابات التي عاشوها في الثامن والعشرين من تشرين الأول عام 1993 حين خرجوا بعاصفة من الألم والدموع أغرقت ميدان النادي الأهلي القطري بهدف التعادل التاريخي الذي أحرزه مهاجمنا جعفر عمران ، وبه بلغنا التعادل الذي كان كافياً لإزاحة المنتخب الياباني عن درب الوصول إلى نهائيات مونديال 1994 وصعود الغريم اللدود منتخب كوريا الجنوبية بدلاً منه مستفيداً من هدف عمران ومن الفوز على كوريا الشمالية!
حَطّ الوفد الياباني الرحال في الدوحة ، ليبدأ المشهد الطويل .. بعض الشخوص الذين اشتركوا في تلك المباراة توجّهوا فوراً إلى الأماكن التي كانوا يتواجدون فيها عند اللحظة التي وضع فيها جعفر عمران الكرة في الشباك .. نفر آخر تمدّد يائساً على ذات البقعة التي إنهار فيها خلال تلك اللحظة المفصلية ، بينما كان رجال الإعلام يوثقون المشهد بالكلمة وكذلك بالفيلم الوثائقي الذي يأتي تطبيقاً حرفياً لما جرى في يوم الهزيمة بالتعادل!
وكعادتهم دوماً ، حرص اليابانيون على تنفيذ المحاكاة التطبيقية بحرفية عالية من دون إهمال ما يره غيرهم تفاصيل لا جدوى فيها أو منها .. بينما كان الحضور من الإعلاميين غير اليابانيين ذاهلين لمرأى ما يجري أمامهم ، ولكنّهم كانوا في كل مرّة يتغلبون على شعور الذهول بمطاردة ما يجري من تفاصيل والكتابة عنها!
وحين زرت اليابان عام 2015 مع المنتخب العراقي ، حرصت على الذهاب إلى المتحف الكبير الذي أقامه الاتحاد الياباني لكرة القدم وفيه زاوية خاصة لكل تفاصيل مباراة العراق مع اليابان عام 1993 بما في ذلك استمارة أسماء اللاعبين . ويومها حاولت التذاكي على المسؤول عن المتحف فسألته : لقد مضت 22 على تلك المباراة بالذات ، ألم تجدوا مباراة أكثر أهمية منها لتخصّصوا لها مثل هذه المساحة التي تزدحم فيها المعروضات من كرة وملابس وأوراق وأدوات وغيرها؟!
كان جواب المسؤول الياباني حاضراً ومشرقاً بالفعل : تلك المباراة هي التي صنعت نجاحنا فيما بعد .. هدف التعادل العراقي وضياع تذكرة الصعود إلى المونديال في ثوان ، مأساة ألهمتنا التفكير والتخطيط والعمل كي نصل إلى اليوم الذي نمثل فيه آسيا على نحو منتظم في نهائيات المونديال .. نحن هنا نشكر المأساة والهدف وجعفر عمران على أنهم أوقدوا فينا روح العمل الصحيح!
إجابة مدهشة لكنها ليست صادمة في عُـرف من يدرك الطريقة التي يتدبّر فيها اليابانيون كل شأن يخصهم .. ففي الموروث الياباني ، قرأت عن (326) فيلما تسجيلياً أو توثيقياً انتجتها اليابان عن جريمة التدمير الذرّي الأمريكي لمدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945 .. ولم تشأ الأفلام بذلك أن توهِن العزيمة أو توجد شهور الهزيمة في أنفس اليابانيين ، وإنما أرادت أن تزرع فيهم روح النهوض من قلب اليأس والدمار لبناء بلد يباهي الدنيا بمجده!
في كل ما عشته من تفاصيل حول الذاكرة اليابانية التي تتناسى الألم ولا تنسى الدرس كنت أتساءل : كم من نكبة كروية حلـّت بنا نحن العراقيين عبر الأزمنة ، ولم نستوقفها أو نتوقف عند أسبابها أو دوافعها .. حتى أننا ننسى النكبات في يوم وقوعها ، بفعل أو بفضل ذاكرة السمك؟