علاء المفرجي
يوم انهارت الطبقة الوسطى في بلده، وأصبحت مجرد حديث بين يائسين، ويوم لفظت آخر صالات السينما في بغداد أنفاسها متحولة الى محلات خردة او ماخور، ويوم خلا الطقس الاجتماعي العراقي من ارتياد السينما، ويم صار جيل كامل بلا أفلام أو سينما، سوى ما يراه في التلفزيون.
كان هناك شابا خجولا، ومتوثبا بالوقت نفسه، أسمه عدي رشيد، عرفته أول مرة نهاية التسعينيات يومها كنا في حديقة اتحاد الادباء، على مائدة واحدة أنا والراحلين الشاعر والكاتب رياض قاسم والناقد السينمائي سامي محمد، عندما قدم نفسه إلينا بخجل. فأيقنت من بريق عينيه والذكاء الذي يشع منها، أن مستقبل السينما سيصنعه أمثاله.
راح (عدي) يحاول بينه وبين نفسه، أن يعيد لنا كل ذلك، فقط بمجرد أن تحين له الفرصة، وحين جاء أوان تحقيق هذه الفرصة عام 2003، كان لابد لهذه الفرصة من أدوات ليحقق بها حلمه. فما كان علية إلا ان ينتزع أمر هذه الادوات بيديه أو وبأسنانه، فببساطة كان عدي يقول: « كنا نكره صدام، ولكننا لا نزال غير قادرين على الفرح لذهابه».. وهذا ما حصل عندما شمر وزملائه عن ساعديه ليحصل في السوق السوداء، على أفلام كوداك 35 مليمتر، كانت موجودة في أرشيفات صدام منذ ثلاثين عاماً، أي حتماً من خزانة سموم الشرير، بحسب الادعاء الوارد في ملف الفيلم الإعلامي الدعائي.
المفارقة المؤلمة أن شركة كوداك أوقفت إنتاج الأفلام المستخدمة في التصوير السينمائي في عام 1983، لكنها أمام إصرار رشيد نصحته بتخفيف الإضاءة أثناء التصوير، فاستحق الفيلم عنوان «Underexposure” او “غير صالح للعرض” أهي مغامرة؟ أم جنون؟ أم فكرة رائعة ومبتكرة للتسويق، حصل عليها (عدي) من ألاعيبه السحرية.؟
وانغمر مع صديقه البارع زياد تركي، في العمل في (غير صالح للعرض)، وخلفهم تيار شبابي ثقافي مجدد يحمل أسم (ناجين) أخذ على عاتقه أن ينحت بصخر الثقافة العراقية العتيدة، معلنا عن وجوده، وحيث لا برنامج تصوير، ولا خطة انتاجية، ولا تقاليد عمل، سوى الاصرار لتحقيق الحلم، كان مجرد أتفاق بين اصدقاء ليعلنوا عن وجودهم، كمثقفين لديهم مشروع، يجب أن يكتمل.. ولأن الحروب والحصار بمختلف اشكاله، والقمع، كانت تتزاحم في ذاكرته، لم يكن يعرف من اين يبدأ، فصرخ في صمت: “بـِتُّ لا أعرف ما الذي عليّ أن أصوِّره”.
اكتمل “غير صالح”، ونال سبق تاريخي، قبل أن ينال المشاركات الدولية والجوائز، بكونه أول فيلم بعد (التغيير)، وراح الشباب من عشاق السينما وخريجيها الجدد يرنون، الى هذا الانجاز الذي حققه نظيرهم العصامي (عدي رشيد) ويعدوه أبا للسينما الجديدة. نعم هو أب السينما الحقيقة بعد 2003، هو من أشعل جذوة الحماس في نفوس الشباب ليكتبوا تاريخا جديدا لها.
(عدي) الذي أرسل لي في فترة عمله في (غير صالح)، رسما لشريط سينمائي، عليه كلمة بغداد، والذي ما جعلني اسأله: متى نرى فيلمك عن بغداد، كما فعل فيلليني لروما، وما فعله سكوسيزي لنيويورك؟ وانت تحب بغداد بهذا القدر، أجابني: “ أذوب بذاكرتي.. أين الشريط.. واين الذاكرة؟ بل أين المدينة بين هذا وذاك”.. واستدرك “اشعر بي يوما اني ساصبع فيلما جيدا.. وبكل حب وثقة، ستكون ملامحك انت، والذين بقدرتك على الحب.. محورا اساسيا في ذاكرتي”
أنغمس صديقي عدي في لجة مشاريعه، والتي جعلته بعيدا عنا، في (نيويورك)، ليستزيد من الخبرة والدراسة، بعد أن اطمئن لجيل من الشباب يحفرون في المستحيل من اجل صناعة مشاريعهم وأفلامهم، ليجعلونا ننتبه لأخطر رسالة في الثقافة، السينما، لينفضوا الغبار عنها باعثين اياها الى حيث نتلمس الجمال. السينما التي صار لها بعد عشرين عاما، جمهور وكتاب ومنتجين، بفضل محاولة شاب خجول اسمه (عدي رشيد).