لطفية الدليمي
يُنقَلُ عن المعماري الراحل حسن فتحي، المعروف بمبتدع نظرية (عمارة للفقراء)، قولُهُ أنّ الإله صنع الانسان من طين ولم يصنعه من خرسانة !!. لاأعرفُ مدى مصداقية هذه العبارة ؛ لكني موقنة بتناغمها مع طبيعة حسن فتحي ورؤيته التصوفية في الحياة.
تصف المعمارية الراحلة (زها حديد) في حديث فيديوي لها عمارة حسن فتحي بأنها أقرب لتهويمات طوباوية غير منتجة. هي لم تقلْ هذا الكلام؛ لكنّ إيماءاتها الجسدية كانت تقول إنّها ترى عمارة فتحي ساذجة. كانت زها حديد في حديثها ذاك تتحدّثُ كواحدة من غلاة الرأسماليين الذين ينظرون إلى نجاح مهنتهم بمقدار ماتعبئ جيوبهم بالمال. كانت كلماتها جافة، قاسية كأنها الصخر، تتواءم مع تضاريس وجهها الصلبة. بدت لي (زها حديد)حينها قطباً رأسمالياً بأذرع كثيرة كانت العمارة واحداً منها فحسب، وثمّة أذرع لتصميم الملابس والديكور الداخلي والاكسسوارات والأثاث.
أظنّ أنّ معظم من إتخذ الكتابة إنشغالاً له يعلم أنّ معرفة شيء عن العمارة ومتفرعاتها الفكرية والمهنية مسألة في غاية الأهمية. العمارة هي فنّ العيش الطيب عبر الاستثمار الذكي لكلّ ممكنات الطبيعة ومايجود به عقل الانسان. هذا هو العنوان الأشمل، وبالاضافة لهذا العنوان نعرفُ أنّ العمارة – فضلاً عن الفنون التشكيلية – كانت بوّابتنا الاولى إلى عالم الحداثة الذي بدأت بواكيره مع البدايات الأولى للقرن العشرين ثمّ نكصت عقب ذلك. نحن في العالم العربي حداثيون معمارياً بمقدار تخلفنا التقني، ويبدو أن لاسبيل لتجاوز الفجوة بين الحداثتيْن التقنية والمعمارية في منظور قريب.
يبدو أننا تمادينا كثيراً في حداثتنا المعمارية حتى تاهت بوصلتنا وماعدنا نعرفُ ماذا نريد من عمارتنا المعاصرة. تغوّلت العمارة العربية المعاصرة وتعشّقت مع بيوتات المال وسماسرة الاسواق حتى صارت أقرب لبورصة في سوق المقاولات الانشائية، وهي سوق رأسمالية كبيرة ضاربة في المنطقة العربية. نعرفُ أنّ العمارة كانت منحىً مهنياً يفضّله أرباب العوائل الثرية لأبنائهم (الطب كان كذلك أيضاً)، وربما كان تسويغهم هو المحافظة على التراث العائلي المهني وتنمية مال الاسرة وزيادة عوائد ملكياتها العقارية.
تغوّلت العمارة كثيراً في ممارساتها حتى فقدت ملامحها المميزة وصارت أقرب لألاعيب شكلانية صبيانية. كان المعماريون الأجانب أكثر حفاظاً على سياق العمارة العضوية المتناغمة مع الطبيعة والبيئة، وهذا مانلمحه في أبنية جامعة بغداد التي وضعها المعماري الالماني (والتر غروبيوس) صاحب مدرسة الباوهاوس، وكذلك فعل (فرانك لويد رايت) جِنّي بغداد، فضلاً عن قائمة طويلة من المعماريين العراقيين الذين إمتازوا بالاصالة و (الحشمة) المعمارية كما يطيب للصديق المعماري (معاذ الآلوسي) وصف الرصانة المعمارية وتجاوبها مع حاجات الناس وإملاءات الطبيعة. حصل الكثير من النقاش حول مبنى (البنك المركزي العراقي) الذي وضعت تصاميمه الراحلة (زها حديد)، وهو نقاش صحي مفيد ومطلوب. هل يُفترض في الناس قبولُ أبنية وُضِعت لخدمتهم من غير أن يكون لهم رأي فيها وبخاصة أنّ مبنى البنك المركزي العراقي يمثل إحدى الواجهات السيادية للدولة في جانبها النقدي وليس محض مبنى سكني خاص يخضع لمزاج فردي.
معروفٌ عن زها حديد أنها جعلت من صنائعها المعمارية أقرب لمخلوقات فضائية تعجُّ بالانحناءات حتى ربط البعض بين دراستها للرياضيات في الجامعة الامريكية في بيروت وبين صنعتها المعمارية. تبدو عمارة حديد في نظر هؤلاء أقرب لأجسام يسمونها في الرياضيات مانيفولد Manifold، حتى صاروا يدعون عمارة حديد (عمارة مانيفولدية).
هل عمارة زها حديد عمارة مابعد حداثية؟ الحقّ أنها بعيدة عن أي توصيف. هي عمارة فضائية كثيرة الانحناءات. ثمّ حتى لو سُمّيت عمارة مابعد حداثية، ماالذي سيتغيّر؟ هل نحن مسكونون بحمّى التوصيفات؟
تبدو لي عمارة زها حديد شبيهة بأشعار نزار قباني؛ فبعد أن إستنفد المطربون مايصلح منها للغناء راح بعضهم يقلّبُ في أشعار القباني غير المغنّاة محاولاً قسرها لأن تكون نصوصاً مغنّاة. ماالنتيجة؟ نصوصٌ تبدو أقرب لأناشيد مدرسية ألحانها غريبة وكولاجية غير متناسقة.
مبنى البنك المركزي العراقي أقربُ لجسم فضائي ناتئ يحاول عامدا كسر التلقائية البصرية والتعالي على التضاريس البغدادية بغطرسة غير مفهومة وغير مسوّغة. ماكلُّ ماتكتبه من كلام يصلحُ لأن يُغنّى، هذا هو قانون الغناء، وكذا الامر مع العمارة: ماكلُّ (الشخبطات) التي تعنُّ لك تصلحُ لأن تكون منشآتٍ يشغلها بشرٌ.
بعيداً عن الاعتبارات الجمالية والوظيفية واعتبارات المواءمة مع الطبيعة والبيئة المحلية، دقّقوا في الكلفة العالية التي سيتكلفها مبنى البنك المركزي العراقي، وهذه ستتوزّع بين كلف كثيرة: كلف الانشاء العالية والناجمة عن التشكيل الغرائبي لهذه الاجسام الفضائية والتي تتطلبُ عملاً مرهقاً وحسابات دقيقة من جانب المهندسين الانشائيين الذين سيتحمّلون عبء معظم العمل. أنت قد ترسمُ رسماً غريباً لايتطلّبُ منك بضع دقائق، ثمّ قد يتطلب بضعة أيام لإنجازه على الحاسوب؛ لكن هل فكّرتَ في حجم الجهد الانشائي المطلوب لإنجازه تصميماً وتنفيذاً؟ ثمّ هل فكّرتَ في مسألة الادامة التي نعرفُ جميعاً أنها فقرة لاتعيرها مجتمعاتنا الاهمية اللازمة؟ هذه كلها كلفٌ ستعملُ على تضخيم الكلفة النهائية للمشروع.
الحكومة من جانبها تعاملت بمنطق براغماتي مراوغ. أرادت مشروعاً يرتبط بإسم (زها حديد) لكي يقال عنها أنها حكومة متنوّرة تسعى لتوظيف الحداثة في مشروعاتها. من الطبيعي أن نتساءل: كم من المشاريع المفيدة ذات التأثير الواضح على حياة البغداديين كان يمكن تحقيقها بأموال جسم (زها حديد) الناتئ وسط بغداد؟
لاأحبُّ عمائر زها حديد، ولاأظنُّ أنّ رؤية جسمها الفضائي المسمّى (البنك المركزي العراقي) وسط بغداد يبشّرُ بعافية قريبة. إنّ عمارة فضائية غريبة عن روح بغداد لن تستطيع إنقاذها من الخراب مهما إدّعى القيّمون عليها. أزيلوا معالم الخراب من أقدم شوارع بغداد (شارع الرشيد) أولاً، وهو جهد لايتطلبُ سوى القليل من المال، ثم بعدها إصنعوا ماشئتم من عمائر فضائية أو غير فضائية في قلب بغداد التي ضاعت بين حداثة مغشوشة وفساد مستحكم.
لم أكن أرغبُ أن يمرّ البغداديون يوماً أمام بناية البنك المركزي العراقي الجديد بعد إكمالها، وسط زحام خانق متوقّع، وهم يتطلّعون إلى ذلك الجسم الناتئ الغريب الذي يقرن إسم زها حديد بالثقب الأسود الذي (يشفط) أموالهم ويُضيعُها في غياهب غولٍ نهم، جشع، يعتزمُ مصّ دمائهم حتى الرمق الاخير، ولايبدو أنه سيتركهم إلا بعد أن يرى العراقيين هياكل عظمية ذاوية في أرض جدباء غاب عنها الزرع والصناعة وأبسط مقوّمات الحياة الآدمية.