لطفية الدليمي
لو سُئلتُ في يومنا هذا: أيّ المباحث المعرفية أقربُ إلى قلبك فسأجيبُ بما قد لايتوقّعه كثيرون. إنه مبحث الانثروبولوجيا الثقافية (أو الاجتماعية. لافرق). أتوقّعُ أن يكون هذا الجواب مبعث سؤال يجب طرحه في سياق طبيعي: كيف لكاتبة وروائية قضت جلّ عمرها في عالم الرواية والادب والنقد الادبي والاشتغالات الثقافية العامة والترجمة أن تختار الانثروبولوجيا الثقافية لتكون المبحث الاقرب إلى قلبها؟ دعونا نفكّك هذه الاحجية التي تنطوي على موضوعة ثقافية مهمّة.
ثمّة قناعة شائعة لدى المنظّرين الثقافيين وصانعي السياسات الثقافية تفيدُ بأنّ « كلّ المباحث الانسانية والاجتماعية يمكن إشتقاقها من مبحث الانثروبولوجيا الثقافية «. الاشتقاق هنا كناية عن التأثير الاعظم لهذا المبحث على المباحث الاخرى، أو لأضع الامر في صيغة سياقية أكثر ترتيباً: لو كان لك تدريب واسع وقراءات معمّقة في الانثروبولوجيا الثقافية فسيكون أمراً يسيراً (أو أقلّ مشقة) أن تتخذ من هذا التدريب وتلك القراءات منصّة للإنطلاق نحو مباحث أخرى في الانسانيات والعلوم الاجتماعية. سيكون هذا الفعل أيسر عليك ممّا لو إتخذت منصّة انطلاق أخرى غير الانثروبولوجيا الثقافية.
أسئلة كثيرة يمكن أن تنبثق في الذهن قد يكون دافعها الاغلب دهشة غير مسبوقة: مامدى مصداقية هذه العبارة التي تبدو مصاغة بطريقة خوارزمية محكمة؟ هل يمكن أن يكون الامر كذلك؟ وماذا بشأن علم النفس (بكلّ فروعه العادية والاكلينيكية)؟ ألا يوفّرُ منصّة بحثية مناسبة للإنطلاق منها إلى سائر مباحث الانسانيات والعلوم الاجتماعية؟ الجواب بسيط وواضح: كلا. علم النفس يدرسُ الانسان ككينونة بيولوجية وفي سياق تفاعلي Interactive؛ في حين أنّ الانثروبولوجيا الثقافية تدرس مباحث أوسع مدى لأنها تدرس الأفراد في نطاق علاقاتهم المشتبكة فضلاً عن الافكار المجرّدة غير المقترنة بكيانات بيولوجية. لاحظ مثلاً: كلّ علم له أنثروبولوجيا خاصة به (أنثروبولوجيا الادب، انثروبولوجيا إقتصادية، أنثروبولوجيا فلسفية،،،، إلخ) فضلاً عن أنثروبولوجيا الافكار (أنثروبولوجيا الجسد البشري، أنثروبولوجيا الملابس، أنثروبولوجيا الاغنية والفلكلور، أنثروبولوجيا التداوي بالاعشاب الطبيعية،،،، إلخ). لابدّ من التأكيد الصارم هنا: لستُ أقول أنّ الانثروبولوجيا الثقافية أكثر أهمية من المباحث الاخرى. جوهرُ ماأقوله هو أنّ الانثروبولوجيا الثقافية توفّرُ لك نقطة شروع مناسبة لفهم ودراسة سائر المباحث المعرفية في الانسانيات والعلوم الاجتماعية.
كلّما شرعتُ في قراءة كتاب عن الانثروبولوجيا الثقافية أشعر باسترخاء عجيب وكأنني أدرسُ كتاباً يتناغم مع ميولي الطبيعية، وليس هذا الامر بجديد؛ بل له تاريخ ومواقف وقراءات. حالتي إزاء الانثروبولوجيا الثقافية كمدخل للانسانيات تتماثل مع حالتي إزاء الفيزياء كمنصّة انطلاق لفهم العلوم الاخرى.
لم أكن يوماً من روّاد شارع المتنبي حتى في أيام أوج تألقه وسطوته على فضائنا الثقافي العراقي. كنتُ أتردّدُ إليه بضع مرّات كواجب إضافي تلقائي عقب شرائي لبعض المستلزمات القرطاسية. مررتُ يوماً في جولة سريعة بهذا الشارع وإذا بي ألمحُ كتاباً ذا زرقة خفيفة أعجبني عنوانه (الانسان في المرآة)، وأعجبني أكثر عنوانُهُ الثانوي (علم الانثروبولوجيا والحياة المعاصرة). كان الكتاب بترجمة الدكتور شاكر مصطفى سليم الذي ينسّبُ إليه فضلُ تأسيس قسم الانثروبولوجيا في كلية الآداب بجامعة بغداد مطلع خمسينات القرن الماضي. إقتنيتُ الكتاب - الذي بدا مستعملاً - بعد تقليب بضع صفحات منه، وأظنه كان واحداً من كتب مكتبة باعها أصحابها على طريقة الجملة لهذا البائع. عرض البائع عليّ كتاباً صغير الحجم باللغة الانكليزية، عنوانه (Patterns of Culture) للأنثروبولوجية الامريكية روث بينيديكت Ruth Benedict التي عرفتُ لاحقاً أنها عملت أحد أوائل أساتذة الانثروبولوجيا في جامعة كولومبيا (أظنها أوّل أستاذة فيها). كان الكتاب قديماً بأوراق مصفرّة متباينة الألوان، طبِع سنة 1948 أيام كانت قوانين ترشيد استخدام الورق سائدة بنتيجة الحرب العالمية الثانية. حوى الجزء الداخلي من غلاف الكتاب ملصقاً صغيراً sticker رصاصي اللون يضمُّ إسم طالب عراقي مبتعث إلى جامعة هارفرد هو (صالح جواد الطعمة) الذي صار لاحقاً أحد كبار المثقفين والاكاديميين العراقيين وشغل مناصب حكومية مهمة في القطاع التربوي.
هكذا كانت بدايتي مع الانثروبولوجيا الثقافية، ثمّ تتالت القراءات وتنوّعت وبخاصة بعد أن طغى تيار البنيوية على حقل الدراسات الانسانية رغم أنني لم أحمل ودّاً لهذا التيار الذي رأيته مغالياً في الشكلانية والتسبيب المنطقي والايغال في السيميائية الرمزية وتحليل لغة الخطاب بطريقة كيفية تتوسلُ لغة رياضياتية. يظلُّ كتاب (مداريات حزينة) للانثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس أحد أحبّ الكتب إلى نفسي بين كبار من وُصِفوا بمؤسسي البنيوية.
منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أتابعُ أعمال الانثروبولوجي النرويجي توماس هيلاند إريكسن Thomas Hylland Eriksen. تروقني كثيراً هذه الاندفاعة التي يبديها في العمل والنشر فضلاً عن تنوّع موضوعاته واشتباكها مع معضلات عالمنا المعاصر. كانت أوّل معرفتي به كتاب (العرقية والقومية: وجهات نظر أنثروبولوجية) الذي صدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية بترجمة متقنة للدكتورة لاهاي عبد الحسين، ثم أعقبْتُها بقراءة كتابه الثاني (تاريخ النظرية الانثروبولوجية) بترجمة الدكتورة لاهاي أيضاً، ثم تعاقبت القراءات حتى إنتهيتُ أخيراً من قراءة كتابه المترجم (أماكن صغيرة، قضايا كبيرة). كم كان موفّقاً في عنوانه هذا؛ فقد إختصر بكلمات أربع مهمّة الانثروبولوجيا الثقافية في عالمنا المعاصر: تشكيل رؤية عالمية واسعة عابرة للمحدّدات القومية والجغرافية إنطلاقاً من موضوعات محلية صغيرة بالمقارنة مع المقياس العالمي.
إنهمك إريكسن في السنوات القليلة الاخيرة ببحث طائفة واسعة من الموضوعات الانثروبولوجية، منها: العيش في بيئة مكتظة رقمياً وسكانياً، ثمّ كلّفته مفوضية الاتحاد الاوربي بتناول مبحث فرط الاحترار Overheating وتأثيره على شبكة العلاقات الانسانية. أعمال إريكسن تبدو مصداقاً عملياً لحقيقة قدرة الانثروبولوجيا الثقافية على تناول كلّ الظواهر البشرية والطبيعية. من الافضل أن لاننسى مبحث علم الاجتماع (السوسيولوجيا) الذي يعدُّ التوأم الطبيعي للأنثروبولوجيا. كلّ أنثرويولوجي هو خبير في علم الاجتماع بالضرورة.
كم أتمنى – وليس في التمنيات من ضير – لو كنتُ واظبتُ على قراءات معمّقة أكثر في الانثروبولوجيا الثقافية منذ بواكير سنوات نشأتي الأولى، وهذه أمنية أرغبُ في تمريرها لمن يسعى من الشباب ليكون له خلفية ثقافية راسخة في الانسانيات والعلوم الاجتماعية: واظبْ على قراءة عناوين متعددة لمؤلفين كثرٍ في الانثروبولوجيا الثقافية لأنك بهذا الفعل سيكون بوسعك فتح مغاليق بوابة كبرى من المعارف الانسانية.
جميع التعليقات 1
حسن بُوحجي
كل ما أقراء مقال لشخصكِ الجميل، أشعر بزهو وأعتزاز بأن مم كتبتيه، هو تعبير دقيق عما يشغل دهني وفكري،،، كم أنتِ رائعة سيدتي المتميزة في أهتماماتها وقلمها وعبارتكِ الثرية في مضمونها وجمالياتها،،، شكراً سيدتنا الوقورة الجميلة.