طالب عبد العزيز
يريد البعضُ، أصحابَ الآفاق البعيدة، من الكتاب والشعراء وسواهما كتابة أشياء هامة، وكبيرة، تلفت الانتباه، وتخلدُ في الزمن، وهذا عين الصواب، وهي بغية كلِّ ذي صنعة، وسعيُّ من أراد لنفسه الفرادة والتميز، لذا، فهم يحرصون على تزيين كتاباتهم بالمأثور من القول، أو الاستشهاد بالقواعد العامة والمتداولة للمعرفة،
وبشيئٍ من أقوال الحكماء والفلاسفة، ممن تدافعت الناس على كتبهم، يرصّعون بها مقالاتهم وفصولاً من كتبهم، في حرص واضح على الاتيان بالحسن المسنود والرصين، وفيهم من يحاول أن تكون له وجهة نظر فلسفية، في مجاورة لأقوال هؤلاء. يفعل الأصدقاء التدريسيون الباحثون، كتاباً وشعراء وفنانين ذلك، فتأتي موادهم محكمةً، بالغة الرصانة، أمينة، غير منقوصة، كيف لا، وهم الذين أفنوا أعمارهم في الدرس والبحث والتأمل !
أنا أغبطهم والله، وأجدني عاجزاً عن الذهاب الى ما ذهبوا اليه، فآلتي في الكتابة تختلف عن آلتهم، وتركيبة ذائقتي مبنية على التأمل المحض، وفي بلادةٍ تنقصها الجرأة، ولا تتحقق ساعة أريد لها بعضاً مما عندهم. أنا هكذا أراني، متنعماً بالنقص، معْوزاً، فقيراً الى الكثير مما بين ايديهم، أذهب الى المتاح، ولا أريد تخريب ذاتي بالمعرفة تلك، بل، وأجد السبيل إليها شائكاً، والباب التي تفضي لجنائنها موصدة دون وجهي، لذا، آثرتُ المُكث في جحيم جهلي، على إكتوائي به، وتضوّري جائعاً اليه .. معللاً ذلك بما قاله البريكان الشاعر:" أوثر أنْ أظلَّ على جوادي .." وإن حدّثتني نفسي بما تكلفته، ذهبت الى إنعاشها بالطري من القول، غامساً يدي في نهر البلاغة والأخيلة والعواطف، مستبرداً ومستظلاً بأشرعة مراكبه، ومستأنساً بما يأتيني من هناك.
أمسِ، كنتُ أقرأ في كتاب بعنوان (تربية الراقي) لفرناندو بيسوا، وهو كتاب مملُّ، كتبه صاحبه وتركه، ثم استودعه درجاً في مكتبته، لم أجد فيه ما أجهد نفسي على اكماله. هذا لا يعني بأنني لا أحبُّ قراءة كتابه الأهم(اللاطمأنينة) أو (راعي القطيع) بترجمة صديقي حيدر الكعبي، أبداً، إنما أورد الكتابَ الممل ذاك لكي أعرّف بعشرات الكتب، التي لا أحبها. تفقدنا بعضُ الكتب الرغبة بالقراءة، وتنكّد علينا يومنا، وتضرُّ بحاجتنا الى المال ايضاً. لكنَّ الذهاب المحموم الى الفلسفة والافكار والعلوم بعامة يفسد الميتافيزيق، الذي هو منه الشعر. في الكتب تلك لم نعد واقعين تحت إغراء اللغة، ولم تعد الجمل المستخلصة من الروح ضمن جهدنا القرائي، فالكل، شعراء وكتابا وباحثين في علوم الجمال ذاهب الى صناعة الكتاب المدهش بافكاره، المتين المسنود بالمأثور المتواتر.. حتى، لكأنَّ الفلاسفة والمفكرين كفوا عن الكتابة.
أرى بأنَّ الكثير مما يكتب في الشعر والرواية والنقد بات غثيثاً، وعبأً ثقيلاً، وزاداً تعافه النفس، لا في نتاجنا العربي حسب إنما في كثير مما يترجم للغتنا. أعتقد بأن القارئ بحاجة الى تخفيف الضغوط ، ضغوط العيش وميكانزم الحياة أرهقت الناس، وهناك وفرة في كتب العلوم، وخلل في تسويق كتب المعارف الانسانية، وقد جاءنا الذكاء الاصطناعي ليأخذ بتلابيب الفطرة، بشحذٍ غير ذي مروءة للقدرات عند الطفل، وفي جانب آخر، بات المضمر في القول والتأويل في الحديث همّاً عند كلِّ ذي سؤال. الكون معقد، ومركبٌ، نعم، وله من يأخذ بيده الى العدم، بعد غلبة السياسة والصناعة وتنافس الشركات الكبرى على رسم خاتمته. وليس هناك من يدافع عن الهناءة وردم هُوى الأرواح.
ربما أجدني في الورقة هذه قادراً على تقريب ما ذهبتُ اليه بقولي: العلوم والافكار والتأويل البعيد وسواها أفعال لا غنى لنا عنها، وهي مادة العصر الحديث، لكنها ترهق الجسد، فهي مثل الادوية الكيمياوية، أو الاشعاعات السينية، تصيبُ العضو المريض، لكنَّ لا يسلم العضو السليم من تأثيرها، أما الكتابة في جدوى الوجود الانساني والتأمل في النهايات المرعبة، ومحاولة التقليل من الشرور عبر مدونات الشعرُ والفنون المطبوعة والمستخلصة من الروح الانسانية فهي مثل الادوية العشبية، لا تترك أثراً سلبياً، ولا تنبئُ بفاجعة، وإنْ لم تتحقق الغاية منها.