يتوجب، في ظني، الانتباه لشاعر مثل فيليب جاكوتيه، لأنه مهموم بقضايا "الشعرية" الجوهرية، ممتلكاً المعرفة الكبيرة، والتواضع الجمّ الجدير بشاعرٍ أصيل، ومترجمٍ نادر أفاد شعره من ترجماته، ليوُسَمَ بميسمٍ شخصيّ.
شاعر مهتمّ أيضاً، بـ "عَمَل الشاعر" وحدود قدرات اللغة، وإمكانات حضورها في الوجود ثم المساهمة في فك طلاسمه، مع ما يتبع ذلك من مشكلات صغرى ترتفع في عمل الشاعر إلى الدرجات الكبرى: فكرة البهجة (التي قد لا ترنّ مفردتها بالعربية كما رنّتْ لجاكوتيه: La joie)، الانمحاء عبر الموت، قدرات البصر، النظرة، نظرة الشاعر القادرة على إدراك العالم بضربةٍ واحدة، وما إلى ذلك من قضايا ما أسميه "بالطفيف".
الجدير بالذكر هنا هو أن شعر جاكوتيه لعبٌ عارفٌ على جميع إمكانات وإحالات اللغة ومرجعياتها: إنه مدقّق بالخفايا التي يشتغل عليها، بلاغيا ودلالياً، وهذا كما نعلم ليس حال جميع شعرائنا العرب. إنه يشتغل على ما يسميه اللسانيون المعاني المتداعية connatation، الشخصية: تلك التي تجاوِرُ وتفيد من المعنى القاموسيّ الأصليّ. ففي إحدى قصائده نجد مثلاً: أنه يستخدم المفردة L'effraie عنواناً (وأعتذر للقراء عن استشهادي باللغة الفرنسية قد لا تكون في متناول الجميع). وهذا المفردة تشير إلى أحد أنواع البومة ذات الريش فاتح اللون (وتسمى البومة المصّاصة أو البيضاء)، وكان بإمكانه استخدام مفردة مألوفة أخرى، Chouette أو اسمها الكامل chouette effraie، لكنه فضّل هذه المفردة الوحيدة عاريةً، لأنها مستلهَمة من الفعل فَزَعَ (effrayer) وتحيل مباشرة ودون وسائط إليه، وبينها وبين مفردة الرعب (l’effroi) تعالقٌ صوتيّ، لكي يوطّد دلالة ومشاعر الفزع والخوف من المجهول ومن الموت التي تبثها القصيدة.
إحالات تود خلق مناخ روحيّ ونفسيّ ومفهوميّ خاص، وتفرض حتى على الترجمة خيارات جديدة غير متوقّعة، إذْ بدلاً من (مروحة) أو مروحة ورقية لإحدى مفرداته، كنا نفضّل استخدام الكلمة العامية لها "مهفّة"، لأنها أكثر انسجاماً مع روح الهبّات السرية أو الخفيفة التي يلمِّح الشاعر إليها، ولأن كلمة مروحة قد تعيد التذكير بالمراوح الحديثة الآلية. الغريب أن هذه المفردة "مهفّة" لا توجد في القواميس والمعاجم العربية رغم أنها مشتقة بشكل منطقيّ ووزني صحيح كاسم آلةٍ من الفعل (هفف): هَفَّتِ الريح تَهِفُّ هَفّاً وهَفِيْفاً: إذا سَمعت صوت هبوبها. وقميص هَفّاف: أي رقيق شفاف، وريش هَفّاف.. " كما أنها على وزن مِحَفّة المقبولة المعروفة.
يمكن لأي شاعر استخدام صيغ البديع ومجازات البلاغة إما بطريقة لعبية شكلانية، أو من أجل المعنى الداخلي والتجربة الشعرية العميقة التي قد توفّرها له هذه الصيغ. الشعر المعاصر ليس ببعيد عن هذه القضية الحيوية. يُوْجِب الأمر في البدء معرفة وليس رفض البلاغة خبط عشواء، كما في بعض "التنظيرات" الحالية. يفيد فيليب جاكوتيه مما تضعه مجازات الأسلوب الفرنسية تحت تصرّفه ،كالجناس المُستخدَمٌ في شعره وفق سياقات الفرنسية كما في جملته (se plie et déplie) التي يظل تجانُس الأصوات فيها فاعلاً ودالاً وشعرياً، خاصة وأنه يشير إلى تناقض جوهريّ في فعلين وجوديين: الثني والبسط اللذين لا يخرجان في العربية من المصدر اللغوي نفسه ولا التصويت اللفظي عينه كما هو حال الفرنسية. لا تُستخدم هذه الصيغ البلاغية في شعر جاكوتيه إلا من أجل هدف عميق، سواءً على مستوى التصويت، أو على مستوى الدلالة التي بدورها تودّ إما إشهار الثنائيات الكبرى (الوجود والعدم، الحياة والموت، الظاهر والباطن...)، أو إعلان تناقضات الوجود التي تطلع من مصدر لغوي بعينه أحياناً (الثني والبسط..)، في مفارقة حقيقية يستثمرها شعر جاكوتيه.