TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "تاريخ الفن" حسب "لسان العرب"

"تاريخ الفن" حسب "لسان العرب"

نشر في: 15 فبراير, 2013: 08:00 م

(الثالث)

شوّه الاستخدام السلبيّ الطويل مفردة الصنم، وشحنها بنزعة كراهية دينية، ليجعلنا ننسى أنها رديف للمنحوتة ثلاثية الأبعاد، وللفن بعبارة أخرى.

يقدّم أصل كلمة "تمثال" في اللسان، دروساً عَرَضِية عن مفهوم الفن كما فُهِم في لحظة محدّدة. فالتمثال "من ماثَل الشيء: شابهه. والتمثال الصورة، والجمع التماثيل. ومَثَّل له الشيءَ: صوَّره حتى كأَنه ينظر إِليه. ومَثَّلت له كذا تمثيلاً إِذا صوَّرت له مثاله بكتابة وغيرها". المقصود بالكتابة الرسم الخطي، التخطيط drawing. "وفي الحديث: أَشدُّ الناس عذاباً مُمَثِّل من المُمَثِّلين، أَي مصوِّر". من الواضح أنه يطلق على النحّات والرسّام كليهما ممثِّلاً، وفي ذلك شيء منسيّ في مصطلحات العربية اليوم، لكنه شاخص في الإنكليزية و الفرنسية وغيرهما (representative, représentant)، طالما أن العملية الفنية هي تمثيل فني أيّاً كان نوعه الجماليّ. "وظِلّ كل شيء تمثاله". الحديث عن (الظل) مفيد في معرفة التصوُّر العربي عن فن الرسم الخطيّ، لأنه يشير للخط الخارجيّ (outline) وللمرأى العام والهيئة الكلية. "ومَثَّل الشيء بالشيء: سوَّاه وشبَّهه به وجعله مثْلَه وعلى مثاله. ومنه الحديث: رأَيت الجنةَ والنار مُمَثَّلَتين في قِبْلة الجدار، أَي مصوَّرتين أَو مثالُهما". نحن هنا أمام مفهوم المحاكاة (mimêsis). "والتمثال اسم للشيء المصنوع [الصنعة هي المعنى الراهن للفن] مشبَّهاً بخلق من خلق الله، وأَصله من مَثَّلْت الشيء بالشيء إِذا قدَّرته على قدره [أي على تناسباته الطبيعية]، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهاً به"، أي مشابَهة ressemblance له.

مفهوم المحاكاة والمشابَهة تفسّر احترام التماثيل والصور. وتقدّم المصادر العربية محاولات مضطربة لتفسير دوافع تقديس التمثال وتبجيل الوثن.

أولاً: تفسير أنثروبولوجيّ يتكرّر في المراجع. يقوم على أساس عمليّ هو أن حجراً مقدّساً معبوداً (idole) إنما هو جزء مستلّ من عمارة دينية مُعَظَّمَة، يحلّ محلَّها بغيابها أو بصعوبة الوصول إليها. وبتقادُم الزمن نُسيَ الأصل ووقع الانهماك بالفرع، بحيث أن أي حجارة جميلة، مُسْتحسَنة، ستصير موضع عبادة. يضع التفسير (للجميل) مكاناً معلناً على حياء، كأن الاحتفاء بالجميل البدائيّ من علل العبادة "الوثنية". يذكر ابن إسحاق: "يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة [...] أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفُسَحَ في البلاد إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى [أنهم عبدوا] ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم، [و] نسوا ما كانوا عليه [...] فعبدوا الأوثان".

وهذا الأمر قائم اليوم أيضاً في تفسير وضع الجبين على "التربة" عند الشيعة التي تحلّ محلّ مكان مقدَّس ناءٍ. في الإطار نفسه فُسِّرتْ عبادة التماثيل التي كانت بالأصل، حسب منطق المرويات، محض محاكاة مُنجزة على شرف الرجالات العظام، ولم تكن موضعاً للعبادة إلا لاحقاً. ما يذكره البخاري، يمكن أن يتعلق بوثن أو بتماثيل، فهو يتحدث الآن عن (نُصب): "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد وهي أسماء قوم صالحين من قوم نوح [هم في رواية أخرى ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر] فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم [...] أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم ففعلوا [وفي رواية: قال رجل: هل أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم غير أنني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا فقالوا نعم] فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتُنوسخ العلم عُبدت".

ثانياً: يقع في الإطار نفسه التمسُّح بجدار مقدّس، بحاجةٍ ذات قيمة روحية، بشبّاكٍ يحتوي ضريحاً، وعبره يمكننا تفسير التبرّك بالتماثيل. نستعيد عبر قول ابن إسحاق التالي تقاليد التماثيل الصغيرة (statuettes أو figurines) النذرية والتبريكية والخصوبية الرافدينية السابقة، بل إن عبارته تؤكد لنا استمرارية تقاليد المنطقة الساميّة العريقة: "واتخذ أهل كل دار [...] صنماً يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسَّح به حين يركب، [...]، وإذا قدم من سفره تمسَّح به".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram