طالب عبد العزيز
أيُّ ارتحال قريب أو بعيد هو رحلة، بالمعنى المجازي، وإن كان داخل المكان الواحد، فانتقال الزوج والزوجة من غرفة إلى أخرى، داخل البيت، وتغيير أمكنة الاثاث، واستبدال الستائر، والمصابيح، ومشجب الثياب، ومحمل الاحذية وغير ها ارتحال لنا وللأشياء معاً، فنحن نرحل داخل انفسنا، كلَّ يوم، وفي الحلم ثمة ارتحال، وبعد كلِّ اوبة الى البيت كانت هناك رحلة صغيرة، الى السوق والمدرسة والوظيفة، نشعر بذلك في دخولنا البيت وفي خروجنا منه.
حتى سبعينات القرن الماضي كان علماء الجيولوجيا يسمّون حركة الارض تحت أقدامنا بالتأرجح المغناطيسي، لكنهم اليوم يتحدثون عن انزياح جغرافي دون توقف نحو سيبيريا، بل وأن القطبين تبادلا أمكنتهما، فقد حلَّ القطب الشمالي محلَّ القطب الجنوبي، في رحلة سريعة، وغير آمنةٍ، بكل تأكيد.
ولأنَّ غرف البيت باتت تخلو واحدة إثر أخرى، بارتحال أولادي الكبار الى منازلهم الخاصة، القريبة من بيت العائلة الكبير، تاركين غرفهم الصغيرة، مغلقةً، لا أحد يطلُّ من نوافذها، فقد تذكرتُ رحلة أهلي(أبي وعمّي وزوجتيهما ونحن أولاد العم) بالزورق الخشبي، من بستان كان على ضفة نهر السراجي الشمالية الى بستان آخر، على ضفته الجنوبية، وسط غابة النخل والفاكهة التي أظلم نهارُها كثيراً ذلك اليوم. كانت المسافة لا تتجاوز الـكيلو متر الواحد، وقد بدت صفحة الماء هادئة، ولم يعق سير الزورق عائقُ القصب والحلفاء والظلال، أبداً، فقد كانت رحلة تناظر طوليٍّ، ففي خط أزرق مائل، شقَّ الزورق بنا الماء، وانساب هادئاً، حاملاً بنا وأثاث البيت، أو عائداً يجلب ما ظلَّ منه ومنا في المكان الاول. كانت هناك لذة ما في التجاذب بين ضفتين.
ظلَّ أبي وعمّي رائحين وغاديين، في رحلة قد تعني رفضاً للاستقرار الجماعي، أو هكذا بدا مشهد التحميل والإنزال الذي استمر حتى ذبول الشمس، أما نحنُ فقد كنا في دهشة المكان، ومنقلب الاشياء، التي لا تعرف الاستقرار، نبحثُ في زوايا البيت الجديد عن ما تركه النزيل القديم، الذي رحل، دونما سؤال عن وجهته. لم تكن الحياة بالسعة التي عليها اليوم، إذْ لم نعثر في رحلة بحثنا داخل البيت هذا على اشياء ذات قيمة ومعنى، وبدا لنا أنهم أخذوا كلَّ شيء، لذلك لا أعتقد بأنَّ أبي وعمي تركا شيئاً هناك، في البيت الذي غادرناه. تفقدت أمي أشياءها، وكذلك زوجة عمي، فلم اسمع منهما عن شيء منسيٍّ. القدور والصحون وملاعق الألمنيوم واباريق النحاس وجرار الماء، الكبيرة والصغيرة، بمحاملها الخشب، وحصران الخوص، واسرة الجريد، مع المنامات والاغطية والوسائد ووو كلها أخذت مواقعها الجديدة، فهي الأخرى تنعم او تشقى معنا في الرحلة هذه.
كنتُ في الخامسة من عمري آنذاك، ولم يعلق عيني من مشاهد الرحلة تلك إلا القليل، لكنَّ مشهد كلبنا، الكلب الذي يحبُّه عمّي، فهو صاحبه، ومحطُّ عنايته فقد ظلَّ ماثلاً الى اليوم. لا أعرف لماذا رفض الكلب الصعود معنا في الزورق، ولماذا بقيَ يتابع مشهد مسير الزورق، وهو يبتعد عنه، قبل أن يلقي بنفسه في الماء، عائماً، لا يظهر من جسده إلا رأسه، خائضاً، بأقدامه القصيرة، ولا يصدرُ أيَّ صوت! كان قد ترك بينه والزورق مسافةً، ليست بالقصيرة، لعله أراد أن يجد بها تفسيراً لمعنى المضي الهادئ ذاك، وما إذا كان العدول عن رحلة العائلة ممكناً، ولعله رأى في المسافة هذه زمناً آخر وأنَّ الرحلة لن تطول كثيراً، لعله ظل يبحث عن فرصة أخيرة للعودة. انا ايضاً، كنتُ قد عشتُ الأمنيات تلك، ومنَّيت نفسي بالعدول والرحلة القصيرة وفرص العودة الى البيت الاول، لكنَّ شيئاً من ذلك لم يتحقق. فما أن ربط أبي حبل الزورق بالشجرة على الجرف، حتى وجدتني أنتظر بلوغ كلبنا الوفي الجرف ذاك. لا أعرف بأيَّ قماشة للسعادة كان قد وضع فيها روحه، مثلما لن اعرف لوناً لقماشة الحزن التي خلعها عن جسده آنذاك.
كلَّ يوم، وضمن برِّه الجميل بنا، يزورنا ابني، بعد عودته من الوظيفة. يسألُ مُطَمْئِناً، أو يحمل شيئاً ما كهدية، أو يتصل بالهاتف، ويدعونا لتناول وجبة الفطور معه، في ايام العطل أو إجازته، لكنني، أجده لا يمكث طويلاً، فهو يجدُ أنَّ رحلته من بيته الى بيتنا(بيته الاول) مُجْهِدة، ومجلسه على الاريكة في الصالة ليس مجلسه في غرفة نومه، وأجده يتردد كثيراً في طرق الباب عليّ، إذا وجدني في غرفة الكتابة هذه، حيث أكون، غالب ساعات النهار وهكذا. هذا الولد الذي ارتحل من عامين بات يجدُ في البيت الذي آواه أربعين عاماً مكاناً مقلِقاً.