طالب عبد العزيز
أكتب المادة هذا وأنا مريض بالتهاب اللوزتين، الذي لن يتوقف عندها، كما هو واضح، فهو آخذ طريقه لتسوية أمره مع العظام والمفاصل والراس والقدمين واليدين، مصرَّاً على جعل اليوم هذا واليومين القادمين ربما، نكداً، عليَّ أنْ أتجرعها غصة بعد غصة، وبما لا ينفع معها أيُّ مستحضر عشبي أو طبيّ، وربما وجدتُ تعلةً ما في الحديث الشريف:".. تداعي له سائرُ الجسد بالسَّهر والحمّى".
فكرتُ بالاعتذار من رئيس التحرير، تحت طائل ما أشتكي منه، إلا أنني تحاملتُ، وجلستُ أكتب، دونما فكرة ما، ومن أين تأتي الافكار لرجل بالكاد يمسك جسده على الكرسي، وأمامه علبة الامبيسلين، وقدح ورق الغار بالليمون والدارسين المطحون، ويكاد كيس المحارم ينفد بين يديه، فهو يرشح من كل عضو فيه، وقد أغلق باب مكتبه عليه، وليس بمقدوره تصفح مدونته على الفسبوك حتى، ولا الرد على رسائل الواتساب، فهو محموم، وفي شبه غيبوبةٍ عن العالم، وبين هذه وتلك ما زال يفكر بقضية تصلح أنْ تكون مادة يومه هذا، لكنْ كلُّ شيءٍ مستعصٍ، فالفكرة تترسب في الفكرة وتجمد، والعناوين يأكل بعضها البعض وتموت، ولا ينفع معها حتى فوز العراق على اليابان بكرة القدم.
قبل أنْ يحجبني التهابُ اللوزين عن القراءة كنت قد توقفتُ عند الصفحة 123 في رواية انطونيو تابوكي(بريرا يدَّعي) الذي سبق أنْ قرأت له أكثر من رواية، بينها (تريستانو يحتضر والسراب)وهو روائي ايطالي، كتب رواية ثالثة عن حياة بيسوا وأقرانه الثلاثة، الشاعر البرتغالي، صاحب (اللاطمانينة) وله روايات أخر. في بريرا يدَّعي، يتسلم بيريرا مسؤولية تحرير القسم الثقافي في الصحيفة المسائية(ليشبونيا) لكنَّ فكرته تنصبُّ على تهيئة مواد تلخِّص حياة الروائيين والشعراء قبل موتهم، ذلك، لأنَّ الصحيفة تريد أنْ تنشر مادة مستوفية وسريعة عن حياتهم في اليوم الثاني بعد موتهم،في سابقة لم تعتمدها الصحف الأخرىن من قبل.
عوالم تابوكي مختلفة، تشبه ما اعاني منه الآن، فهو يعجن مادته في وعاء متوهَم، حتى ليبدو عندي أنه يكتب تحت تاثير حمّى ما، ففي روايته (السراب) يكتب ما الرابط بين الابريق الموضوع على الصندوق والنافذة؟ ليس بينهما أيُّ صلة، وكل منهما غريب عن الآخر، لكنه رآهما مقبولين لمجرد أنه اشترى ذات يوم، قبل عدة سنوات ذلك الابريق ثم وضعه على الصندوق قرب النافذة، وهكذا فأن الرابط بين الشيئين هي عيناه، اللتان كانت تراهما. أنا أيضاً، أحاول أنْ ألمَّ شتات مادتي هذه بعقد صلات بين اشياء مختلفة، إذْ ليس كل ما يحيطنا يتمتع ومنسجم بقرائن معقولة، فكرة الحياة ذاتها شيء غير معقول، فنحن نعيشها الى جوار فكرتنا عن الموت!
وفي روايته(في بلاد الأشياء الاخيرة) يكتب بول اوستر: حين تكتشف بأنك كففت عن الامل باحتمال الامل فانك تسعى عندئذ لملء الفراغات الشاغرة بالاحلام" ألا ترون بأننا نردم الهُوى العميقة التي تصادفنا في الحياة بالاحلام، حين لا تخذلنا الوقائع. هناك مقياس اسمه الانتروبيا يستعمل لقياس اضطراب النظام. يقول أحد النقاد عن حياة وشعر إيميلي دكنسون كانت كمن يرفو ثوباً خيوطه من العدم، هي التي ماتت طوال حياتها، وظلت ابرتها مسافرةً في قماش استعاراتها، أليس جوهر الكينونة هو استعارة دائمة للغياب كما يقول توماس جونسون؟ لكن، ومع كلِّ ما نتجرعه ونعاني منه، فنحن لا نرى حياتنا جرحاً عميقاً، هي مجرد ذكرى مؤلمة.