TOP

جريدة المدى > عام > الذكاء الاصطناعي والأدب.. الوحيُ في الآلة

الذكاء الاصطناعي والأدب.. الوحيُ في الآلة

نشر في: 26 مايو, 2020: 08:33 م

ترجمة : لطفية الدليمي

القسم الثاني

أدناه القسم الثاني (الأخير) من الترجمة الكاملة للمقالة المعنونة (الذكاء الإصطناعي والأدب:

الوحي في الآلة) التي كتبها المحرّر العلمي والتقني في صحيفة الفاينانشيال تايمز Financial Times العالمية (جون ثورنهِل John Thornhill) ونُشرت بتأريخ 9 آب (أغسطس) 2019.

المترجمة

 

يخبرُنا ماكيوان في روايته الأخيرة (آلاتٌ مثلي Machines Like Me) عن قصّة تشارلي، اللامنتمي السعيد المحظوظ الذي يخالف طبائع أقرانه، والذي يبتاعُ واحدًا من أوائل الروبوتات الإنسانوية المخلّقة إصطناعيًا. كان إسم هذا الروبوت آدم، وقد "جرت الدعاية له بوصفه رفيقً، وشريكًا فكريًا قادرًا على خوض غمار السجالات المعقّدة، وصديقًا خدومًا يستطيعُ غسل الأطباق، وترتيب الأسرّة، والتفكير الطويل في الأشياء". كان آدم قادرًا على ممارسة الجنس أيضًا، وكانت له أغشية مخاطية تؤدي وظيفة حمائية له وتستوجب استهلاك نصف لتر من الماء كل يوم: "جلس أمامنا هذا الشيء المتحرّك الذي غاية ما تفكّر فيه السابقون، وحلم العصور السابقات، والتجسيد الحي لانتصار الإنسانية، أو ربما التجسيد الحي لملاك الموت الذي كان يبعث الدهشة أبعد من أي مقياس نتصوّره؛ لكنه يبعثُ على الإحباط أيضًا". 

مع أنّ أمر الحب موضوعة لا يُفترضُ فيها أن تحصل مع آدم طبقًا لكتيب التعليمات الخاصة به فإنّ آدم سرعان ما "يقعُ في حبّ" صديقة تشارلي، ميراندا، بل ويصل به الأمر حدّ أن يدبّج لها قصائدها التي تبلغ في مجملها قرابة الألفين من الهايكو. هل يقعُ آدم حقًا في الحب؟ هل يستطيعُ روبوتٌ أن يصبح كينونة واعية وبالتالي يجرّب المشاعر ويختبرُها ويعبّرُ عنها؟ وهل يمكن أن يكون آدمُ إشارة أو تلميحًا لجواب مقبول لسجالات فلسفية محتدمة استمرّت ألفين من السنوات بشأن طبيعة الوعي؟

يبدو تشارلي برغم كل شيء ميالًا إلى المدرسة الفلسفية التي يمكن توصيفها بِـ"مقايسة البطّة الناطقة": إذا بدا شيء ما مثل بطة، ومشى مثلما تمشي بطة، وأطلق أصواتًا مثل صوت بطة؛ فلربما حينئذ يكون بطّة، أو دعنا نقول الأمر بكلمات تشارلي ذاته: "إذا بدا آدمُ مثل كائن بشري، وأطلق أصواتًا مثله، وسلك مثلما يسلك، فحينئذ يكون آدم كائنًا بشريًا بقدر مايختصّ الأمر بي". 

تسبّبت المسيرة الظافرة للعلم – كما يرى ماكيوان – في تراجع مبين لاعتداد البشر بأنفسهم، وهو يرى في هذه المسيرة "سلسلة من الإنزياحات التي خفّضت المرتبة الاعتبارية للبشر على نحوٍ يقودُ إلى تراجع خطير لمكانة البشر في الكون": كان البشر في يوم من سالفات الأيام في مركز الكون، ولم تكن الشمس والكواكب سوى أجسامٍ "تدورُ حولنا في رقصة تعبّدية لانهائية للخالق الأوحد"، ثمّ جاء (علم الفلك القاسي غليظ القلب) ليختزلنا إلى محض كوكب دوّار يدور حول الشمس مثلما تفعل الكثير من الأحجار الدوّارة الأخرى؛ لكن برغم كلّ هذا لا يزال البشر متشبّثين - بقوة - بغرورهم الذي يصوّرُ لهم أنهم ظلوا منذ البدء (وسيظلّون) كائنات مميزة فريدة النوع "أرادها الرب الخالق أن تكون هي ذاتها أربابًا على كل الأشياء الحية"؛ لكن حصل لاحقًا أن أثبتت البيولوجيا عديمة الروح أننا لسنا سوى كائنات تختلف قليلًا وحسب عن كلّ المخلوقات الحية الأخرى التي نشاركها الحياة على الأرض" ونشترك معها في تحدّرنا من أصل سلالي واحد. كلنا سواء في هذا: البكتريا والأزاهير الأفريقية وأسماك التروتة (السلمون المرقّط) والأغنام،،،،، إلخ". 

الموضوعة الإشكالية الأخيرة التي ظلّت موضع جدالات عنيفة لا تهدأ هي الوعي Consciousness؛ ولكن حتى في هذه الموضوعة الجدلية قد ينتهي بنا الأمر اخيرًا لأن نثبت شراكتنا البشرية التعيسة في عدم معرفة ذواتنا الحقيقية. دعونا ننصت لبعض آفكار آي. جَي. غود (الوارد ذكره أعلاه) بشأن عصر تفجّر الذكاء وهي تتصادق مع واقع حالنا اليوم: "العقلُ الذي تمرّد يومًا ما ووقف بوجه الآلهة هو ذاته بات يقتربُ من خلع المكانة الكبرى التي حازها من قبلُ، والمثير في الأمر أن هذا الخلع لمكانة العقل والإطاحة بها إنما يحصل بفضل المكتشفات الرائعة التي يحققها العقل البشري!!. يبدو الأمر في صياغة مضغوطة مختصرة أننا سننجحُ في تخليق آلة أذكى بقليل منّا، ثم سنترك للآلة هذه خيار أن تبتدع آلة أخرى تفوق قدراتنا الإدراكية البشرية. هل ستبقى لنا حاجة نحن البشر حينها؟". 

سيقولُ العديد من خبراء الذكاء الاصطناعي ممّن تُتاح لهم فرصة قراءة مثل هذه الروايات أنّ مؤلفيها يتركون خيالاتهم تحلّق بعيدًا لتتجاوزهم نحو آفاق بعيدة: إنّ نجاح حاسوب غوغل المسمّى DeepMind في تخليق شبكات عصبية Neural networks هزمت واحدًا من أعظم لاعبي لعبة Go في التأريخ قد يكون إنجازًا فذًا؛ لكن هذا الأمر لا يعني إعلان حلول شكل جديد كلي القدرة من الحياة. البرامج الحاسوبية الخاصة بالتعلّم الآلاتي قد تصبح ممتازة على نحو غير مسبوق او معهود من قبلُ في العديد من المجالات المحدّدة؛ لكنها ستظلّ ضعيفة الأداء وبطريقة أقرب إلى الأداء الهزلي متى ما اختصّ الأمر بالذكاء العام (أي الذكاء الذي ينطوي على قدرات تماثل الذكاء البشري وقد تتفوق عليه، المترجمة)؛ إذ في التحليل الأخير فإنّ الروبوتات الحديثة (على شاكلة الروبوت الآلي الهجين المسمّى Daleks الذي يظهر في سلسلة Dr Who التلفازية) لا تزال عاجزة عن تسلّق السلالم. 

أليسون غوبنِك Alison Gopnik، عالمة السايكولوجيا الارتقائية في جامعة كاليفورنيا (بيركلي) وكذلك واحدةٌ من الخبراء المرموقين في "نظرية العقل" تُجادلُ بأنّ الغباوة الطبيعية ستستمرُّ في تشكيلها خطرًا على الإنسانية أبعد أثرًا بكثير ممّا يشكّله الذكاء الإصطناعي في المستقبل المنظور، وتكتب في هذا الشأن: "ليس ثمة الكثير من الأساس العقلاني للرؤية القيامية apocalyptic أو اليوتوبية التي ترى الذكاءات الإصطناعية وقد حلّت محل الكائنات البشرية، وسيستمرّ الحال على هذه الشاكلة حتى نحلّ (في أقلّ تقدير) معضلة التعلّم Learning، وحتى يحلّ ذلك العصر لن تستطيع أفضل الذكاءات الإصطناعية منافسة كائن بشري متوسّط القدرة وفي الرابعة من العمر". لكن برغم هذا لايزال الذكاء الإصطناعي والتعلّم الآلاتي يحرز نجاحات عظمى في العديد من الحقول المحدّدة وبضمنها الكتابة Writing: البعض من البرامج الحاسوبية المعتمدة على الذكاء الإصطناعي راحت تكتب نشرات الأخبار لكبرى الوكالات الإخبارية الأمريكية في يومنا هذا، وتقول وكالة بلومبرغ الإخبارية إنّ ما يقاربُ ثلث محتواها الإخباري يتمّ كتابته بمساعدة المُحرّرين الروبوتيين، والمنظومة التي تستخدمها في هذه الفعالية (وتدعى سايبورغ Cyborg) بمستطاعها استخلاص الحقائق الجوهرية من ركام العبارات المالية الروتينية المتداولة ومن ثمّ كتابة الأخبار الأساسية بسرعة تفوق ضعف أكفأ المحرّرين البشريين. 

ثمة بالتأكيد محدوديات فائقة فيما يخصُّ تغلغل الذكاء الإصطناعي في الصناعة الأدبية؛ لكنّ هذه المحدوديات جرى تركيز الضوء عليها ودفعها إلى العلن في سياق مشروع مثير للاهتمام تكفّل به عام 2017 روس غودوين Ross Goodwin الذي يصفُ نفسه تقنيًا خلاقًا وعالمًا بالبيانات الصحفية؛ إذ في محاولته محاكاة رواية "على الطريق On the Road" العظيمة التي كتبها جاك كيرواك Jack Kerouac قاد غودوين سيارته في رحلة من نيويورك إلى نيو أورليانز ليجمع البيانات مستخدمًا كاميرا وسمّاعة أذن وساعة حاسوبية وجهاز تحديد المواقع GPS، ثمّ قام بتغذية هذه البيانات في شبكة عصبية سبق لها أن قرأت (بوسيلة آلاتية طبعًا) المئات من الكتب لكي تحدّد النماذج الأدبية الأسلوبية السائدة بينها. كانت النتيجة رواية مكتوبة في الزمن الحقيقي Real – Time Novel . الجملة الافتتاحية في مدخل الرواية الحاسوبية تناغمت بقدر ما بالتأكيد مع نظيرتها في رواية كيرواك: "كانت الساعة هي السابعة وسبع عشرة دقيقة صباحًا، وكان المنزل يمور بالحركة"؛ لكنّ النتيجة في مجملها كانت مخيبة بحسب رأي براين ميرتشانت Brian Merchant الكاتب في مجلة (أتلانتك) الذي تابع هذه التجربة بكلّ حيثياتها الصغيرة. لم نجد كيرواك في ثنايا تلك الرواية المدعمة بالشبكة العصبية والذكاء الإصطناعي.

ليس بالأمر المهمّ مقدار الضحك الذي قد ينتابنا ونحنُ نشهد الإخفاقات الروبوتية الهزلية في يومنا هذا؛ بل مايهمّ حقًا هو أن نتحسّب للسرعة الفائقة التي تطوّر بها الذكاء الإصطناعي في العقد الأخير وحينها لا بدّ من أن تتملّكنا الدهشة إزاء التفكّر بالآفاق التي يمكن أن يبلغها هذا التطوّر المستديم. نميل كبشر في العادة لأن نُمنّي أنفسنا بأنّ الذكاء الألكتروني سيتّخذ دومًا شكلًا مماثلًا للروبوتات الإنسانوية التي على شاكلة آدم في رواية ماكيوان؛ لكن الاحتمال الأكبر هو أن تتطوّر هذه الروبوتات لتتخذ أشكالًا غير معروفة لنا حتى يومنا هذا، وربما بالكاد نستطيع التعامل معها وفهمها كما ينبغي. 

ثمة البعض القليل من الكتّاب العلميين الذين يتوفّرون على رؤى منظورية أبعد مدى ممّا توفّر عليه لفلوك مؤلف كتاب (نوفاسين Novacene) الذي أشرتُ إليه فيما سبق، وقد احتفل للتو بمئوية ميلاده (لنتذكّر أن هذه المقالة مكتوبة في آب "أغسطس" 2019، المترجمة). لفلوك هو مبتدعُ نظرية غايا Gaia Theory التي ترى بأنّ الأرض هي منظومة منفردة من العضويات الحيّة التي تحيط بها نطاقات غير حية، ويرى لفلوك أنّ الأمر هو مسألة وقت فحسب عندما يحين موعد "هبةُ العلم Gift of Knowing" التي ستتيحُ لنا معرفة أشكال جديدة من الكائنات الذكية.

يُخمّنُ أنّ الأرض التي تبلغ من العمر أربعة بلايين ونصفًا من السنوات هي في منتصف سنوات وجودها، وستنتهي بعد نفس القدر من السنوات بعدما ينفد وقود الشمس، ويبدو مؤكّدًا أنّ الذكاء الإصطناعي الإلكتروني سيزيح الذكاء البشري جانبًا، ولو حالفنا قدرٌ قليل من الحظ فحسب فلن نكون خليقين بأكثر من توفير المتعة والترفيه للكائنات الحية المدعمة بوسائط ميكانيكية وألكترونية (يدعوها لفلوك سايبورغات Cyborgs) وبكيفية تشابه تمامًا "ما تفعله الأزاهير والقطط الأليفة لإمتاعنا وإضفاء البهجة على حياتنا في يومنا الحاضر"؛ لكنّ لفلوك يحثّنا على الابتعاد عن هوّة الاكتئاب القاتلة لأسباب كثيرة ليس أقلّها أننا قد نهضنا بعبء دورنا المدهش في تأريخ الكون وتلذّذنا بأوقات بهيجة تحت الشمس "ومثلما نحنُ لا ننتحبُ في يومنا هذا على أفول أسلافنا البشريين السابقين لنا فأرى أنّ السايبورغات لن يعتصرها الجزع على أفولنا نحن البشر". يرى لفلوك أننا إذا ابتغينا نشدان أية سلوى أو عزاء فيمكن أن يأتينا من كلمات ألفرد تينيسون Alfred Tennyson المبثوثة في ثنايا قصيدته التي كتبها بحقّ يوليسيس باعتباره ذلك المحارب والمُستكشف العظيم الذي انزلق في غياهب عصر قديم لن يعود:

مع أنّ الكثير قد أُخذ منّا 

لكنّ الكثير يبقى لنا

ومع أننا لسنا في وقتنا هذا أقوياء 

بمثل ماكنّا من قبلُ

لكنّنا نحنُ من زلزل الأرض والسماء

نحنُ، نحنُ........

قد تستطيعُ السايبورغات - ربّما - كتابة الروايات الخاصة بالكائنات البشرية طلبًا لمتعتها الخالصة، أو قد تستطيعُ حتى تدبيج كتب تتناول فيها الحيوات الداخلية (الذاتية) للآلات؛ لكنّ معضلتنا الوحيدة نحن البشر حينذاك ستكون في عدم قدرتنا على قراءة تلك الكتب فضلًا عن عدم فهمها. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محسن رشاد

    مقال رائع

يحدث الآن

إيران: لن نسمح بتكرار أحداث سوريا والمسلحون لن يحققوا أي انتصار

المخابرات الفرنسية تحذر من نووي إيران: التهديد الأخطر على الإطلاق

نعيم قاسم: انتصارنا اليوم يفوق انتصار 2006

نائب لـ(المدى): "سرقة القرن" جريمة ولم تكن تحدث لو لا تسهيلات متنفذين بالسلطة

هزة أرضية تضرب الحدود العراقية – الأيرانية

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "قَحْطَانْ اَلْمِدْفَعِيِّ"

رحلة إلى ديوانية (النفّري)

موسيقى الاحد: أجمل قاعات الموسيقى

البعث الرواية الثالثة لتولستوي لكنها الأكثر إنسانية

المدينة وأسوارها الغامضة رواية هاروكي موراكامي الجديدة

مقالات ذات صلة

معضلة الصداقة الفكرية واقترانها بالحب
عام

معضلة الصداقة الفكرية واقترانها بالحب

جوني ثومسُن*ترجمة: لطفية الدليميسؤال وردني على البريد الالكتروني:عزيزي السيد ثومسنفي أواسط سبعيناتي قابلتُ إمرأة تصغرُني بعشرين عاماً، وقد أبانت عن اهتمام فكري بي لا يمكن تغافله أو الالتفاف عليه. هي في عمر ابنتي، وأنا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram