الكلّ يَعْرف اليوم تقريباً الفارق بين (الشعر) و(الشعريات) رغم أن المفردة الأخيرة استخدمتْ بإفراط في ثقافةٍ تُبجِّل الشعرَ تأريخياً مثل ثقافتنا، لكي تتقرّب من فنّ الشعر بالأحرى.
أصل الشعريات يقع في المفهوم الأغريقيّ "بويتيكس" poiêtikês التي تُرجمت في وقت متأخر عربياً بـ"البويطيقا"، انطلاقاً من كتاب أرسطو الشهير بالعنوان الإغريقيّ نفسه الذي ترجمه العرب ببعض التجاوُز بـ"فن الشعر". التجاوز قادم من أن أرسطو عالج فيه الفن الشعريّ ليس كما عرفه العرب، وإنما كما تجلّى في"التراجيديا"و"الملحمة"و"المحاكاة"وهي ضروب لم تكن ثقافة المترجم العربيّ تعرفها قط. من هنا الالتباس الأصليّ كله بين الشعريات الحالية، المستلهمة جوهرياً من مفاهيم أرسطو والشعر. إذ تعرف"الشعريات"وما هو"شعريّ"اللحظة بأنها دراسة الأشكال الأدبية، وعلى وجه الخصوص دراسة الأسلوب والسردية والمجازات البلاغية، بالطبع في فن الشعر المخصوص وغيره من الأنواع الأدبية، بل وغير الأدبية.
نتكلم اليوم عن شعرية المسرح، وشعرية الخطاب اللغويّ وغير اللغويّ، وشعريات الفيلم السينمائيّ، وشعرية الرواية، وشعرية الموقف الإنسانيّ، وشعرية الصمت نفسه، وغير ذلك، وكله لا علاقة له بفن الشعر المخصوص، ولا بالشاعرية الحالمة.
ويبدو لنا أن هذه الشعرية، جوهرياً، هي مساءلة مرهفة، وغير مباشرة، مُثْقلة بالمجاز والاستعارة، وفق طريقتها وتقنيتها وأدواتها، لمسألةٍ من مسائل الوجود. إن مفهوماً عميقاً عن هذا الوجود يتخذ بصيغة ما شكلاً استعارياً، لا تبسيط فيه، حتى في الرواية. ألم تُقْرأ روايات نجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان بهذا المعنى، بحيث أن لا قيمة لشخوصها دونه! شخصيات لا يمكن فهمها فقط بصفتها محض رموز أو معادلات صارمة لشرائح وطبقات بشرية واجتماعية، ففي ذلك قتل للإنسانيّ المركّب فيها، ففيها جميع التعقيدات، بل الالتباس، الذي تنطوي عليه الاستعارة، مثلها مثل شخصيتي السمكة والصيّاد في رواية همنغواي"الشيخ والبحر".
في الصورة أيضاً شعريات مماثلة، بهذا المعنى أو قريباً منه. ولا يُمكن أن تُفهم بصفتها محض توثيق لحقبة ولشخوص وأماكن من الحاضر أو الماضي، رغم أنها قد تكون شبيهاً بشخصيتي الصياد والبحر وشخوص محفوظ أو فرمان.
بصفتها مجازاً وأسلوباً وسرداً وشكلاً وخطاباً مراوغاً، ثمة شيء من"الشعرية"، بل الكثير منها. وأحياناً تراها مشحونة تماماً بالشعرية. إنها"كتابة بالضوء"، وهكذا كان يُعرّف التصوير الفوتوغرافي في فرنسا عند بدء اكتشافه. ولعل هذا الأمر هو ما يٌفسّر لنا لماذا نتوقّف أمام صورة قديمة معينة، حتى لو تعلق بشخص محدّد نعرفه، إذ عبره نستحضر سياقاً نفسياً، أو لحظة متوترة، أو استعارة تاريخية عزيزة، أو واقعة شخصية حميمة، أو مجازاً يُمثّله من نراه أكثر من شخصه المحدد.
لا ينطبق التوصيف على جميع الصور بالنسبة لكل امرئ منا، بالضبط مثلما لا ينطبق على تفضيلاتنا وأمزجتنا وميولنا بالنسبة لهذا النص الشعريّ وذاك، وما يثيره فينا مرأى هيئة هذا الشاعر أو ذاك. نص الصورة هو خطاب لا يتفق الجميع بشأنه مثل أي خطاب. وإذا ما تعلق هذا الخطاب بالماضي فلسوف يكون الاختلاف بيّناً وبارداً ومقلقاً ولذيذاً في عين الوقت.
لذا يبدو أن شعريات الصورة يجب أن لا تُفهم إلا على أساس أنها لغة خاصة مطلية بلون السيبيا، أو ذاك اللون الحائل المزرقّ أو المخضّر. إنها لا تمجّد الماضي قدر ما تشتبك بالنوستالجيا بشكل مُلتبِس. وأنها باثـة للمعرفة ومشعّة بالضوء على الحاضر. لا تبدو لهذا السبب دقيقة المعاني الأخرى لشعريات الصورة، ولعلها تحتاج إلى اللُوَيْنات.
شعريات الصورة تسائل الوجودَ. وجودنا نحن. أليس كذلك؟. وهي تفعل حتى لو كانت من الماضي. أتأمّل صورتي وصورتكِ الملتقطة قبل سنوات طوال حتى أتيقن من ذلك.
شعريات الصورة تسائل مشكلات الوجود بطريقتها كما أشرنا، خاصة معضلة الموت، وما يبقى من حيوات كانت مفعمة يوماً. هذا أمر جديد تماماً في تاريخ البشرية منذ اختراع التصوير الفوتوغرافي، لأنّ براعة فن الرسم وواقعيته لم تستطع القيام بأمر مماثِل تماماً. فعل لكن ليس تماماً كما تخبرنا الصورة الفوتوغرافية.
الشعر، الشعريات، شعريـــة الصــورة
نشر في: 2 مايو, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
بارزاني يؤكد دعمه لرئيس القضاء: نرفض أي طعن يمس سمعته
بغداد.. الاطاحة بشخص يمتهن "الدكات العشائرية" مقابل مبالغ مالية
القانونية النيابية لـ(المدى): القوانين المعطلة في البرلمان تحتاج الى توافق سياسي
استقدام 3 مسؤولين في الديوانية بتهمة هدرٍ ومغالاةٍ في المال العام
بثنائية نظيفة.. منتخب شباب العراق يفوز على نظيره اللبناني
الأكثر قراءة
الرأي
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/almada-ad.jpeg)
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/almada-ad.jpeg)
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/Almada-logo.png)
جميع التعليقات 1
شوقي مسلماني
جميل