الشعر في تراجُع، قرّاء الشعر في تراجُع. الأماكن التي تُكرَّس للشعر في الصفحات الثقافية اليومية ليست فضاءات الصدارة. في الصفحات الأسبوعية أيضاً، وفي الشهرية صار فضاؤه الطباعيّ ملتبساً إذا لم نقل شبه هامشيّ.
لكن أعداد من يكتب الشعر في تزايُد، وصار من يُضفي على نفسه، هو نفسه، لقب الشاعر في تزايد مماثل. كمية المجاميع الشعرية المطبوعة في تصاعُد صاروخيّ لكن على حساب مؤلفيها. الناشرون حذرون والقرّاء مُعْرِضون إلا لأسماء محددة تكرّست بفعل الإبداع الحق أو الإشاعة الثقافية.
بالمقابل ثمة اهتمام متزايد بالشعر المُترْجَم، بعد حروب طاحنة عن دقة الترجمات من عدمها. ثمة انتباه، كبير أو صغير، لكل شاعر يأتي من تخوم ليست في حدود ثقافتنا العربية، حتى يبدو الانتباه لمزاج ليس البتة من مزاجات الشعر العربي، القديم أو المعاصر، وكأنه عقدة مستعصية تستحق التأمل والتفسير.
اليوم صار الشاعر الجدير بكتاباته يخشى النشر في الصحافة، لئلا يُحسب نصه على هذا التيار الكاسح السهل، فالاستعارات تتشابه ظاهرياً، والقاموس هو عينه شكلياً، والجميع مصرّ على التشبث بالمراجع الشعرية الحداثية نفسها: لا أحد أحسن من أحد، بينما صار تسفيه قيم وأسماء شعرية كانت حتى الأمس القريب نوعاً من (تابو) أمراً شبه عاديّ.
ما الذي حدث لكي تتوصّل ثقافة (موصومة) بحبّ الشعر، وديدنها الشعر، إلى انكسار روحيّ معلن مماثِل؟. ليس الجواب سهلاً. ويمكن تقديم مقترحات للأجوبة.
في فترة سابقة كانت هناك خشية من التنميط. كان (النمطيّ) و(المنمَّط) و(النمَط) مخشياً من الوقوع به. لا أعرف مدى دقة المصطلح هذا (التنميط) الذي شاع في فترة ما، ولكنني أجده طريقة معينة للتعبير عن فقدان اللمسة الخصوصية، وأسلوبا لنقد ذوبان الذات الشعرية برافد وأنهار شعرية معروفة. كان تحذيراً من متابعة الأساليب واللغات والاستعارات الشعرية السائدة، وتوكيداً على اختطاط الشاعر لنمطه الخاص به.
في السياق الثقافيّ والروحيّ القائم اليوم الذي يَمتدح نمطية اليوميَّ، ويُفضّل العاديّ ويدعو لمتابعته، ويرفع المرويّ العابر دون قيمة إلى مصاف رفيع، ويستخلص من ضجره الشخصيّ شعراً، فإن النمطي والمنمَّط يصير هو المشروع الممتدَح الوحيد. إن النقد الصحفي الراهن للمجاميع الشعرية لا يُخفي إعجابه العالي بالعاديّ والمُضْجِر والسرديّ العابر، لكنه لا يقول لنا لماذا لم يتحوّل هذا كله إلى "واقع سحريّ" مذهل أو "كابوسي كافكوي" في المجاميع التي يُعالجها. وبالطبع هذا "السحريّ" أو "الكابوسيّ" ليس مثالنا الأوحد عن الإبداع قدر ما هو مثال عن طريقة أخرى للاغتراف من اليومي والعابر والسردي والواقعيّ.
من جهة أخرى فإن عدداً من الشعراء الذين كان لوقت قريب يزعم أن الشعر هو همّه الوجوديّ الأوحد، لم يعد يعطي الانطباع نفسه في السنوات الأخيرة، إذ انصرف العديد إلى كتابة الرواية خاصة، واهتمامات أخرى شتى، مانحاً القراء الرغبةَ بالتحوّل عن قراءة الشعر لسواه. وفي الحقيقة لطالما توقفنا أمام هذه الإشكالية، فمنذ وقت بعيد كان يقال إن الانصراف لشؤون ثقافية غير الشعر هو إبطال أو إنقاص أو تأجيل لمواهبنا الشعرية. ما الذي حدا مما بدا؟. اليوم تتضح الأمور بشكل آخر في السياق الثقافيّ العام.
أحسب أن بعض هذا الانصراف عن الشعر لما سواه (حتى لو رُبط الأمر بشخوصنا) إنما هو قادم من الشعر بصفته فناً صعباً، ومراوغاً لا يمكن التحايل عليه بشيء يشابهه أو الترويج لمثيله على أنه هو عينه.
ثمة يقيناً من يهتم اليوم عميقاً بالشعر، مدركاً ضرورته القصوى ومتوقفاً أمام صعوبات إنجازه. ثمة بالتأكيد من يعتبره هاجساً من هواجسه الأصلية في الحياة، ويظنّ أن قراءته هي مصباح آخر من مصابيح العالم. ونحن من بينهم.
هل ثمة من يهتمّ بالشعر اليوم؟
نشر في: 30 مايو, 2014: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
بارزاني يؤكد دعمه لرئيس القضاء: نرفض أي طعن يمس سمعته
بغداد.. الاطاحة بشخص يمتهن "الدكات العشائرية" مقابل مبالغ مالية
القانونية النيابية لـ(المدى): القوانين المعطلة في البرلمان تحتاج الى توافق سياسي
استقدام 3 مسؤولين في الديوانية بتهمة هدرٍ ومغالاةٍ في المال العام
بثنائية نظيفة.. منتخب شباب العراق يفوز على نظيره اللبناني
الأكثر قراءة
الرأي
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/almada-ad.jpeg)
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/almada-ad.jpeg)
![](https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2024/01/Almada-logo.png)
جميع التعليقات 1
نسرين اليوسفي / دهوك / كردستان
رأيك هذا يدعو للتصنيف ايضاً ، تصنيف لمن يعتبرون انفسهم شعراء ، وللشعراء الأبرار لمهمة وجمالية الشعر الحقيقية ، كلاهما يحتاج لوقفة تأمل عميقة لما يكتب أو مايستنسخه على ( غرار ) هذا وذاك ، يكاد الشعر أن يموت واقفا بين ماسجله الأقدمون وما لم يفتِ بهِ من جـ