لاهوت التحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي

آراء وأفكار 2013/01/13 08:00:00 م

لاهوت التحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي

(القسم الثاني)

تلاحم في شخصية شريعتي المثقف والداعية والمناضل، وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت الثقافة إلى أيديولوجيا، وظل أبرز مشاغله "أدلجة الدين والمجتمع". يقول شريعتي: "سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهم حدث وأسمى إنجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة، وهو تحويل الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا"(1) . ما الذي يقصده بالأيديولوجيا؟ وهل يستطيع أن يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث ومثقف، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة الأيديولوجيا، لتشمل الدين والثقافة والمجتمع؟! قبل الإشارة إلى ذلك نقتبس نصا مطولا من آثاره، يضيء هذا المفهوم، ويحدد ملامحه في وعيه. يكتب شريعتي: (الأيديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي خاصان يتوفر عليهما الإنسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي المسوّغة لهذه الأمور، والتي ترسم لـه مسؤولياته، وحلوله، وتوجهاته، ومواقفه، ومبادئه، وأحكامه، وتدفعه بالتالي إلى الإيمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك الكونية، وابتناءً على نمط "علم الاجتماع " و"علم الإنسان" و"فلسفة التاريخ" الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي علاقتك بنفسك، وبالآخرين، وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعله؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نموذجي، وما هي مسؤولية كل فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية، وقيمه الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالأيديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه الاجتماعي والوطني والطبقي للإنسان، وتفسر نظامه القيمي والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: "كيف تكون؟ "و"ماذا تفعل؟" و"ماذا ينبغي فعله" و"كيف يجب ان نكون؟"(2) . لكن ما هي حدود الأيديولوجيا؟ وما هي علاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: "الأيديولوجيا تهدي للإنسان ما تمنحه لـه الإمكانات التقنية تماما. ما التقنية إلا مجموعة الجهود الإنسانية الرامية إلى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها. الأيديولوجيا تقنية يستعين الإنسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء" (3). ويتداخل مفهوما التقنية والأيديولوجيا لديه، بنحو تصبح "التقنية عبارة عن فرض إرادة الإنسان على قوانين الطبيعة، أو هي استخدام العلم من قبل الإرادة الإنسانية الواعية، للوصول إلى مبتغاه. العلم هو مسعى إنساني لفهم الطبيعة واكتشاف ما فيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها، واصطناع ما ليس فيها. وفقا لهذا التعريف تكون الأيديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة، تقنية بالمعنى الأعم للكلمة"(4) . ويبدو أن الهموم النضالية لشريعتي، ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين، والتشديد على المضامين الاجتماعية للإسلام، هي الباعث لمسعاه في تحويل الإسلام "من ثقافة إلى أيديولوجيا". وربما تأثر شريعتي بأطروحات جماعة لاهوت التحرير، ودعواتهم لتحويل الدين إلى أيديولوجيا لمناهضة الاستعمار، وتحرير الأرض، وتنمية المجتمع، بعيدا عن مشاغل اللاهوت الكلاسيكي. ومما لا ريب فيه أن هيمنة الأيديولوجيا على وعي الباحث والمثقف، تحول بينه وبين الوصول إلى نتائج علمية، أكثر موضوعية وحيادا في تفكيره وبحثه. ذلك أن الأيديولوجيا تقود أية عملية تفكير وتوجهها الوجهة التي تنشدها، وتضاعف التحيزات والمفروضات القبلية في ذهن الباحث، وتسوقه دائما إلى مواقف ونتائج محددة سلفا، باعتبار التفكير الأيديولوجي يسعى إلى تغيير العالم لا تفسيره. حسب شريعتی تتحول الايدولوجيا إلى أداة "يستعين الإنسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء". وينشغل أنصار الأيديولوجيا في سكب المجتمع في قوالبها ورؤيتها الخاصة، ولذلك ينددون بالتعددية، ويكرهون الناس على تفسير رسمي للمعتقدات الدينية والاجتماعية والسياسية، ويخنقون الأسئلة الكبرى، ويعملون  على ترسيخ الجزمية واليقين، وبالتالي بناء مجتمع مقلد مغلق. وتكمن المفارقة في أن شريعتي الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالإسلام "من ثقافة إلى أيديولوجيا" نعثر في كتاباته على نزعة تفكير ناقدة، وأحيانا حرة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو إلى إصلاح الفكر الإسلامي، والانفتاح على مختلف الأديان والثقافات. وتحكي آثاره ذائقة فنان، وروح شاعر، وعقلية ناقد، ونزعة متمرد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الأيديولوجيا الانسجام والتوافق معها. والمفروض أن مثقفا كشريعتي يدرك مثل هذا التهافت، ويعي الالتباس بين الشخصية الأيديولوجية للداعية، وشخصية المثقف، والشاعر، والفنان، والناقد، لكن موقفه ظل ملتبسا بين شفافية الفنان الرومانسي، وبين أحلام وتطلعات المناضل(5) ، فتاه في تناقضات ومفاهيم غائمة، صاغها بقوالب شعارات ثورية، هي تعبير شعبوي عن أحلام مجتمع غارق بالوعود الخلاصية.

وتورط شريعتي بتفسير ماركسي لبعض الآيات، فأسقط المادية التاريخية على القصص القرآني، وحاول أن يقدم أحيانا تأويلاً وجودياً ملتبساً للإسلام.  فمثلا صاغ تحليلا يبتني على الصراع الطبقي في قصة ابني آدم بين هابيل وقابيل، فاعتبر "قابيل ممثلا للنظام الزراعي والملكية الخاصة والفردية، بينما هابيل يمثل العصر الرعوي والاشتراكية الأولية قبل الملكية"(6) . وهكذا فسر الكثير من الصراعات الاعتقادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، تفسيرا طبقيا ماركسيا، فهو يرى أن "الثورة الحتمية المستقبلية تعتمد على التناقض الديالكتيكي، الذي بدأ بالمعركة بين هابيل وقابيل، وهي تجري على الدوام في كافة المجتمعات بين النظام الحاكم والمحكوم، وانتصار العدالة والقسط والحقيقة هو المصير الحتمي للتاريخ". وخلص إلى أن كافة العقائد و"الأديان الحاكمة في التاريخ، إنما هي دائما وبلا استثناء تمثل الطبقة الحاكمة"(7) . وتحيل الظواهر الاجتماعية لدى شريعتي إلى مفاهيم عقائدية، فالوحدة الاجتماعية والسياسية، والشرك والصراع الاجتماعي والسياسي يعبران عن  التوحيد والشرك الاعتقادي "والوحدة الحقيقية بين الجماعات والطبقات، هي تعبير عن التوحيد". وهكذا "الشرك الاجتماعي إنما هو انعكاس للشرك الإلهي"(8) .

استلهم شريعتي القواعد الأساسية للماركسية، وأقام عليها بناء إسلاميا. كل أولياته ومبادئه ماركسية، ولا يمكن العثور لديه على رؤية إسلامية عميقة. متى وأين كان للإسلام بناء تحتي وبناء علوي؟ بل أين نجد في الإسلام مفهوما للتاريخ بالنحو الذي تكلّم عنه؟ إن من العسير مزج كل هذه المفاهيم مع بعضها في مركب متجانس(9) . شريعتي يملك أجوبة جاهزة لكل الأسئلة. إنه يضرب لنا المثل الصارخ عن رؤية ضيقة. وكل شيء يُفسّر عنده بعبارات ماركسية،ببنى تحتية وفوقية، برؤية ثنائية للتاريخ، وبشلال من التماهيات المسلسلة. إن فكر شريعتي خليط من الجذرين، اللذين يتقيأ أحدهما الآخر. يعتقد داريوش شايغان ان شريعتي:" لئن خلط هيغل المجرد من كل الجهاز المفهومي لمنظومة العقل وظهورية الروح، مع ماركس مجرد من النظرية، من الفعل على إطلاقه Praxis""، مع إسلام مبتور من قطبيه، المبدأ"Origine" والمعاد"Retour"، فإننا نحصل على حساء دسم، تبدو فيه جميع العناصر المجمعة، منزوعة ومجردة من كل مضمونها الوجودي، نظرا لأنها فصلت عن القاعدة التي تكونها وتسوغ علة وجودها، إن فكرا كهذا لا يمكنه أن يكون سوى فكر بلا موضوع، وبالتالي، فكر بلا مكان(10) . إن شريعتي لم يستوعب المضمون الفلسفي لـ"ديالكتيك" هيغل، وهكذا لم يتوغل في اكتشاف البنية المفهومية لفكر ماركس، ولم تسعفه رؤياه أن يتخطى مقولاته الاقتصادية والاجتماعية. كان شريعتي يستعيد معظم المقولات الماركسية، ويعطيها معاني جديدة، "يقولبها وفق البنى التي ينكرها. فالفكرة القائلة إن الرؤية التوحيدية (الإسلامية) للعالم تتحقق عبر الإنسان والتاريخ والمجتمع في الأيديولوجيا الإسلامية، لتفضي إلى المجتمع المثالي، هي نوع من  هيغلية مشوهة، مفصولة عن نظام العقل، وعن كل الجهاز المفهومي للجدل. ومثلما اختزل شريعتي (الروح المطلق) إلى مفهوم توحيدي غائم، فقد رد أيضا كل الماركسية إلى المقولات الاجتماعية والاقتصادية، من دون أي اعتبار للمعنى الفلسفي للبراكسيس. إن هذه  الماركسية الغائمة المتفشية في فكره تتكشف في استعماله، كيفما اتفق، مصطلحات البنية التحتية والبنية الفوقية والحتمية التاريخية(المسماة أيضا "علمية") والعلاقات الجدلية والمشاعية البدائية...الخ.

1-جعفريان، رسول. جريان ها وسازمان هاي مذهبي ـــــ سياسي إيران "از روي كار امدن محمد رضا شاه تا بيروزي انقلاب إسلامي"، قم: ط6، 1385ش. ص 75 - 81.

2-شريعتي، د. علي. مجموعه آثار . ج16: ص51-52.

3- المصدر السابق. ج16: ص62.

4-المصدر السابق. ج4: ص383.

5-شريعتي، د. علي. مصدر سابق. ج11: ص136.

6- المصدر السابق. ج14: ص319.

7-بروجردي، د. مهرزاد. مصدر سابق. ص171-172.

8-الرفاعي، د. عبدالجبار. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد. بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين ودار الهادي، ط2، 2008، ص271-274.

9- شايغان، داريوش. "دين ودين پزوهي در روزكار ما در كفت وكو با دكتر داريوش شايغان".  مجله هفت آسمان، ع5"ربيع 2000".

10 شايغان، داريوش. النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا. بيروت: دار الساقي، 1991،  ص 71.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top