تواصل المدى نشر الأعمدة الثقافية، والتي سبق وأن أرسلها الفنان الرائد الراحل سامي عبد الحميد إلى المدى، بغية النشر. والمدى إذ تنشر هذه الأعمدة تؤكد الحضور الثقافي الفاعل الذي كان يميز فناننا الكبير.
سامي عبد الحميد
- 1 -
يعتقد أو يدعي البعض من المسرحيين العراقيين الجدد أنهم هم الذين بدأوا التجديد في النص أو في العرض المسرحي وخصوصاً أولئك الذين تركوا الوطن وعادوا إليه بعد أن شاهدوا عروضاً مسرحية تختلف عما كانوا يشاهدونه في بلدهم ، بيد أن الحق والانصاف يقتضي أن نُذكّر بعدد من النماذج التجديدية أو التجريبية التي ظهرت منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
لم يكن المسرح في العراق يعرف المونودراما ولكن المخرج الراحل إبراهيم جلال أخرج عام 1956 مونودراما الروسي (أنطون جيكوف) المعنونة (أغنية التم) عن ممثل شيخ هجره جمهوره فراح يتذكر أيام مجده. ولأول مرة في العراق يصمم الفنان (إسماعيل الشيخلي) منظراً رمزياً للمسرحية متمثلاً بثلاث مفردات هي تمثال ليد كبيرة تحمل شمعة رمزاً للممثل بوصفه شمعة تضيء، وعجلة عربة رمز لحركة الحياة واستمرارها، وسلم لا تظهر نهايته رمزاً لصعود الفنان الى أعالي المجد، وكان الرائد (يوسف العاني) قد سبق ذلك حين مثل مونودراما من تأليفه.
في أواسط الستينيات من القرن الماضي لم يكن المسرحيون العراقيون يعرفون الكثير عن مسرح اللا معقول الذي ساد المسرح في أوروبا ذلك الوقت ، بيد أن (طه سالم) كتب أكثر من مسرحية تنتمي الى ذلك النوع، وكانت (طنطل) التي أخرجها (محسن العزاوي) أبرزها، وقد علّق الناقد الراحل (حميد رشيد) على شخصية (طنطل) بطل المسرحية على أنه هاملت العراقي الذي يحاول أن يروض بيتاً قديماً متآكلاً ويمنع الريح من أن تهب الى على وجهة واحدة . وفي إخراجه للمسرحية كان (محسن العزاوي) متجاوباً مع طبيعة النص مؤكداً على عبثية الإنسان في هذا الزمان وذلك بتجريده المكان المسرحي وشخوص المسرحية في زمانها ومكانها وكانت مسرحية طه سالم (ما معقولة) التي أخرجتها لطلبة أكاديمية الفنون الجميلة في تلك المرحلة ، النموذج الأقرب الى مسرح اللامعقول عندما يتحول البشر يمثلهم موظفو الحكومة الى مجرد آلات متحركة بلا إحساس، وقمت بتحويل الموظفين الى ما يشبه السجلات التي تُنقل من رفٍ الى آخر، ومن درج الى آخر.
وفي ذلك الوقت لم يكن أحد من المسرحيين العراقيين يعرف من هو (جان جينيه) ومسرحياته الطليعية التي تكشف عن غربة الإنسان في المجتمع الرأسمالي المعاصر، وأنا كذلك لم أكن أعرف عنه وعنها شيئاً إلا بعد أن شاركت بتمثيل أحد شخصيات مسرحيته المشهورة (رقابة عليا) والتي قمت بترجمتها الى العربية وبعنوان (في انتظار الموت) وهي مسرحية خلاصية يتنافس أبطالها المجرمون وهم في زنزانتهم من أجل الوصول الى المجرم الأعلى في زنزانة أخرى . قدّمتُ المسرحية في مسرح غرفة في الجمعية البغدادية في الصليخ وبعدها قدّمتُ مسرحية بيكت اللا معقولة (في انتظار غودو) وبأسلوب السهل الممتنع. وقدمت بعدها ومع طلبة قسم الفنون المسرحية بكلية الفنون مسرحيته الأشهر (احتفال نهريجي للسود) وفي مسرح دائري.
في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي ظهر نموذجان متقدمان للمسرح العراقي الجديد ، الأول يتمثل في مسرحية (المفتاح) التي كتبها يوسف العاني وأخرجها سامي عبد الحميد وصمم مناظرها أزياءها كاظم حيدر وشأكتفي بما قاله النقاد بوقتها عنها . قال (رشيد الرماحي : "(المفتاح) إذ تشق للمسرح العراقي طريقاً نحو الأصالة .. نؤكد شمول مشكلة الانسان في كل زمان ومكان وواقع.." وقال (احمد جاسم العلي) عنها: "إن مؤلفها تعدى المحلية في الموضوع وانطلق الى الآفاق العالمية ليعود ثانية ويسلط الضوء على القضية المحلية... "
ويقول (يوسف العاني) إن العالم يتقدم رغم الآلام والعذاب.." ويقول ناقد آخر "فلأول مرة في مسرحنا العراقي تصبح الموسيقى والغناء عنصراً رئيساً وأساسياً في مسرحية المفتاح" .