حيدر المحسن
لا يؤدي نفخ الرماد في الرماد غير نشره على الملأ، وبعضُ الصحافة أدبٌ وإبداع وسحر، ولدينا في العراق أقلام مهمّة رسّخت أسماءها في تاريخ هذا الفنّ، حسن العاني يُعدّ من الأوائل في الزمن الحاضر، وقد حضَرَهُ الموتُ قبل يومين.
تعيش الصحافة على الواقع، ولا تأخذ من الخيال شيئا، وهكذا صارت مقالات حسن العاني مادّةَ يومها، تتألف أغلبها من طرائف وحكايات ونوادر ينقلها من حياة الناس، من نخاع آلامهم، من عضّة الوجع الأخيرة، ويستطيع من يتتبعها أن يرسم خارطة مفصّلة للعراق في هذا الزمان.
أحسستُ بصوت من الأعماق
يا وطني
في كلّ وقت أحببناك فيه
كنّا نموت قليلا...!
جذورك موجودة في سابع طبقة
من القلب،
في المستوى السابع من الألم
أحفظ هذه القصيدة من دون أن يردَ في بالي الآن اسم شاعرها، وكنتُ أفكّر أن أختار البيت الأخير منها عنوانا للمقال: "المستوى السابع من الألم"، لأنه يصوّر دخيلة حسن العاني، منذورا لحبّ وطنه العراق. البلاد بأكملها موطنه وبيته، فلم يكن يميل إلى جهة أو حزب أو دين، وظلّ يكتب مقالاتِه في الصحافة في زمان البعث وما بعده. يدُهُ بيضاءُ تشعّ بصدقها، فكيف لا تكون يدا مستحيلة.
بالنسبة إلى علماء التشريح، فإن يد الإنسان هي دماغه الثاني، وفيها من التعقيد والغموض أنّ البحوث العلميّة في هذا الباب تبدو غيرَ كافية، ولابدّ من الاستعانة برجال الفكر والفلسفة والفنّ لغرض الإحاطة بما تقوم به يدنا في الحياة، بصورة مباشرة وغير مباشرة. يقول الشاعر:
"يدي.. / يا يدي المستحيلة / ألا تنظرين الذي حلّ بي، من يديك! / ألا تنظرين ذبول الورود الجميلة / ألا تنظرين عظامي – تضيء الأفاعي عظامي – فحلّي يديكِ /..."
في القصيدة صورة لموقع اليد في جسم الإنسان، فالأفاعي هي التي تضيء العظام، دلالة على الشرور، ويرغب الشاعر التبرّأ من يديه، ونقل مكانها إلى عضو آخر. وليس من باب الصدفة أن هويّتنا الشخصيّة تتقاسمها اليد عن طريق بصمة الإصبع، مع البصمة الثانية التي لا تمّحي، الكائنة في الجزء الظاهر من الدماغ، وهو العين. لكن الأولى تتغلّب، في رأيي، على الثانية لأن فيها هويّة اجتماعيّة يقوم أحدنا بتعريف نفسه بها، وهو التوقيع – أي الإمضاء – وهذا ليس من عمل اليد وحدَها، إنما أبداننا تقوم بهذه المهمة، وتوكل الأمر إلى اليد.
اليد البيضاء المستحيلة نادرةٌ في زماننا مثل الكبريت الأصفر، خصوصا في عالم الصحافة والسياسة، وكذلك الأدب. نقرأ في الذِكر: "َفأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقرَءُواْ كِتَبِيَه. إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَقٍ حِسَابِيَه. فَهُوَ فِي عِيشَة رَّاضِيَة. فِي جَنَّةٍ عَالِيَة".
لم ألتقِ بحسن العاني ولم أره ولو من بعيد، لكني أكاد أجزم أني قرأتُ جلّ ما جادت به يداه، في فنّي المقالة والقصّة. في الثانية كان يجاهد أن يكسّر الصخر، وفي الأولى يغرف من جرف النهر. لم يغادر بلده، وكان ينشر في الصحف العراقيّة ما يعيشه ويسمعه ويبلغه من أحداث ونوادر، فلم يعرف مصدرا عربيّا أو أجنبيّا يعتمد عليه في إنتاج مادّته، وإذا حسبنا العهد الذي عاش فيه، من رعب ومن ظلمات تحيط بنا من جميع الجهات، أمكننا تقدير موهبته ومقدار إخلاصه وتفانيه في سبيل وطنه.
لأنه غادرنا اليوم، فرشتُ على مكتبي جميع مؤلّفات حسن العاني. آخر كتاب تسلّمته من دار شهريار كان عنوانه: "دفتر صغير على طاولة". على صفحته الأولى كتبتُ: "اليدُ البيضاء تملأ النفس بالعنفوان والبدن بالجبروت والعينين بالفتنة". أقرأ في الكتاب وأنظر إلى يدي والخوف يرشح منّي، فكيف قضى الرجلُ عمره وهو يكتب بيدٍ مستحيلة؟
لألبير كامو عبارة تُفيدنا هنا: "ليس الكفاح في سبيل الحقّ هو الذي يدفعنا إلى أن نكون أدباء، بل إن الأدب هو الذي يفرض علينا أن نكون كذلك". عند ترجمة هذا القانون على واقع العراق الحديث، يكون حسن العاني مكافحا ومناضلا وأديبا، ويمتلك يدين مستحيلتين؛ يدا على الزرع ويدا على الصاعقة.