الرئيسية > أعمدة واراء > إسطنبول: مدينة تحنط البراءة في متحف

إسطنبول: مدينة تحنط البراءة في متحف

نشر في: 6 يوليو, 2013: 10:01 م

3
عندما تفقد المدن العظمى براءتها وعطرها الطبيعي تتحول إلى  متحف  للقيم والأفكار والأزمنة المتهاوية ،فالمدن  خاضعة لفكرة الزوال والقيامة بتغيراتها وتكرار ولادتها ، يحكمها مرور الزمان وترادف الوقائع الأرضية ، بينما تنطوي بُنيتها على نواة  جوهرية أقرب  إلى بداهة الشعر  وفانتازيات  التخييل ، تتداولها  الأعمال الأدبية  موتيفات وترنيمات وأسرارا مباحة ومفردات  يستلهمها الشعراء والروائيون  ليصنعوا منها مدنهم  الأخرى المترنحة بين اليوتوبيا والحلم المستحيل  والانهيارات واصطناع  رؤية مغايرة للمستقبل .  
 إسطنبول  التي رأيتها في السبعينيات  هي غير إسطنبول  العقد الأول من القرن الحالي، مدينة الأمس تفيض  شعرا وأناشيد مولوية  ونساء متأنقات  وتراثا  أصيلا  تخمرت عناصره  من تزاوج الفن الإسلامي مع الروح الأناضولية وأساطير الشرق التي تداخلت مع البقايا البيزنطية الرومانية لتقدم لنا مزيجها السحري المغوي ، أما اليوم  فقد  تلاشى التراث الثمين عندما زاحمته  في سوق ( الغراند بازار)  بضائع صينية وكورية  مقلدة أزاحت التحف التراثية والمطرزات  الرقيقة التي  تبدعها سيدات مدينتي  قونية وبورصة وفتيات الجبال  الماهرات اللائي  تحولن الى خادمات  وبائعات اسطنبوليات، ضاعت  البراءة الأناضولية  والروح الشرقية إلا قليلا وغدت إسطنبول اقرب إلى مدينة أوروبية  تقلد مدينة شرقية فقدت  براءتها.
يصف أورهان  باموق واقع حال تركيا في حوار له مع موقع ( قنطرة) :
   (بلادي متأثرة بالدرجة الأولى بالقيم الإسلامية وتقاليدها الخاصّة ، وفي الوقت  ذاته يتملكها  هذا الحنين الهائل إلى الغرب ، وهذه المتناقضات بالذات لا تزال تتحكم  بتركيا - حتى يومنا هذا)  
 عندما كتب  أورهان باموق روايته  ( متحف البراءة) كان ينعى تلك  الملامح الأصلية الضائعة التي  ميزت  سنوات الستينيات والسبعينيات  من القرن الماضي ثم فقدتها مدينة أحلامه  في خضم التحولات الاجتماعية والانقلابات والتغيرات السياسية والارتماء الكلي في الحلم الاوروبي  المستحيل .
  كان  أورهان باموق  وهو يدون فصول روايته( متحف البراءة)  سنة 2008  يشاهد كل صباح مبنى قديما وهو يصحب صغيرته الى المدرسة  ويتمنى ان يشتريه  ليحوله الى متحف  كما فعل بطل روايته  (متحف البراءة) الذي جمع  أشياء حبيبته من امشاط وملابس وأوراق  وبطاقات سينما وأحذية وساعات وأدوات زينة وأقام متحفا لزمن الحب البريء وذكرياته ،ومن المتحف الخيالي في الرواية انبثق حلم باموك بإقامة متحف للبراءة يمثل العصر الذهبي الحديث لمدينته المفقودة  يجمع فيه الأشياء اليومية التي كانت مستعملة في عقدي الستينيات والسبعينيات : قصاصات صحف  وبطاقات بريدية وحليا وثيابا وعطورا وساعات وملاحات ومفاتيح وملاعق .
عمد الروائي الحالم  الى المزج  بين حقيقة مدينته  وبين قصته المتخيلة فقام بتقليد روايته وافتتح من ماله الخاص ( متحف البراءة) ووضع في مدخل المتحف آلاف أعقاب السجائر التي افترض أن (اوسون) العاشقة دخنتها طوال السنوات  الثماني التي استغرقتها قصة حبها لكمال ، شاء أورهان باموك أن  تتحول إسطنبول  الى معشوقة أبدية محنطة في متحف  كفعل رمزي لمحاولة الاحتفاظ بروحها الهاربة ،وهكذا افتتح متحفه سنة 2012  لدى الاحتفال بإسطنبول عاصمة للثقافة الأوروبية  وقام  بتحويل فصول الرواية الـ83 الى خزانات زجاجية تضم أشياء يومية تمثل تطورات قصة الحب التي تتماهى مع  عشقه  الكبير لمدينته  المفقودة  وتاريخها المضطرب وبذا يكون هذا المتحف أول متحف في العالم يقام استنادا إلى نص روائي ويجسده على الأرض ويستلهم أحداثه في تبويب خزائنه التي تحفظ الصور الفوتوغرافية و القمصان وزجاجات العصير، هل سنرى يوما متحفا لبراءة بغداد يحفظ ذكريات أناسها وملامحها المدنية الضائعة وهي الأسمى من تراث  السياسة والحروب؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

صفقة مبكرة لحسم الحكومة القادمة قبل الانتخابات!

أزمة مجازر وضيق حظائر.. العراق يواجه شبح "النزفية"

السوداني يؤكد مضي العراق باتجاه تسليح قواته الجوية

مسؤولون أكراد: كردستان تحافظ على السلم وسط شرق أوسط مضطرب

العراق ويونامي يبحثان "انتقالاً سلساً" لمهام البعثة الأممية

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

البْصَرة عراقيَّة.. لا عَلويَّة ولا عثمانيَّة

العمود الثامن: الجلوس على أنفاس المواطن

روما على مفترق طرق – هل تكتب الجولة الثانية نهاية أزمة أم بداية تصعيد؟

العمود الثامن: نور زهير ياباني !!

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

العمود الثامن: البابا فرنسيس وعقدة ساكو

 علي حسين غاب البابا فرنسيس حاملاً معه أعلى مراتب الانسانية. ورث عن بلاده الارجنتين حب كرة القدم، والسعي لاشاعة السلام والمحبة بين الناس.. كلمة "الأمل" كانت آخر ما كتب البابا ونشرها قبل وفاته...
علي حسين

قناطر: عليك مني السلام يا أبا عبد الله

طالب عبد العزيز قد لا يُرى الضرر الذي يلحقه الفسادُ بالمواطن البسيط؛ لأنه خارج معادلة المليارات التي تسرق، والتي تضيع في المشاريع الوهمية، وهو(المواطن)قانع، راض، حامدٌ، شاكرٌ ما يتقاضاه من فتات مائدة الرعاية الاجتماعية،...
طالب عبد العزيز

كوب الفخار … وانكسار الذوق العراقي

أحمد حسن في مقهى صغير وسط مدينة فلورنسا الإيطالية، اسمه "بابليوني"، شدني مشهد بسيط لكن عميق الدلالة: أكواب القهوة مصنوعة من فخار يدوي الطابع، تعيدك في لحظة إلى بابل، إلى العراق. صاحب المقهى، كما...
أحمد حسن

القومية والثقافات الأخرى

محمد سلماوى من المؤسف أن المد القومى العربى الذى انتعش فى أواسط القرن العشرين عمل فى بعض الدول العربية على طمس الثقافات الأخرى فى تلك الدول التى كانت مصدر ثراء للحضارة العربية الكبرى التى...
محمد سلماوى
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram